التاريخ الميلادي

الجمعة، 29 مايو 2020

ماذا قال المؤرخ "كلوت بك" عن دور توطين الأجانب في تدمير حضارة مصر واحتلالها؟

اندهش الكثير من الرحالة والمؤرخين الفرنسيين حين زاروا مصر في القرنين 18 و19 من الحال الذي وصلت إليه مصر وأهلها في ذلك الوقت من احتلال وإهانة على يد الأجانب، مقارنة بما قرأوه في الكتب قبل أن يأتوها عن تاريخها المجيد، وما عاينوه في معابدها من فخامة وكبرياء، وعصروا أذهانهم ليصلوا إلى السبب.

الفلاح المصري وكلوت بك
على يمين الناظر كلوت بك وعلى الشمال رسم للفلاح المصري سنة 1923 لإيفان بيليبن


ومن هؤلاء أنطوان كلوت، المشهور بـ "كلوت بك"، وهو الطبيب الفرنسي الذي جاء إلى مصر ليعمل في مشاريع محمد علي، وأشرف على تأسيس القصر العيني، وعاش في مصر 15 سنة، لم يكتفَ بأداء عمله الطبي، ولكن قضاها أيضا بروح الرحالة والمؤرخ المدقق في أحوال الناس وطباعهم، وقرأ في تاريخ مصر قبل الاحتلالات، وجمع هذا كله في كتابه "لمحة عامة إلى مصر"، الذي نشره في باريس سنة 1840، ويعد كأنه نسخة مصغرة من الموسوعة الفرنسية "وصف مصر".

وبعد طول تأمل في محاولة إجابة السؤال حول ما أوصل المصريين إلى السقوط في يد الاحتلالات، وماذا جعلهم في الدرك الأسفل من المعيشة في بلدهم، مستبعدين من المناصب والثروة والأمر والنهي، في حين يتنعم بكل هذا الأجانب من كل صنف ولون، فقال:

"لو أن مصر استطاعت أن تقي نفسها شر الاتصال بالأجانب، أو لو كانت طبيعة وجه أرضها وشكل سطحها من الوجهة الحربية بحيث يصدان عنها الغارات الأجنبية، لما بقي شك في قدرتها على صيانة وجودها وإطالة أمد حياتها بما كان مسنونا لها من الأنظمة العالية والقوانين الحكيمة لتدبير مرافقها ومصالحها من كل نوع".

"ولكن مصر لا تملك من وسائط الدفاع الطبيعية عن كيانها ما يكترث به أو يُعتمد عليه (...) فهي بهذا الوصف فريسة سهلة ولقمة سائغة جذبت إليها من جميع النواحي عظماء الفاتحين الذين طالما طمحت أنظارهم إلى خيراتها الزراعية وموقعها الجميل بين 3 من قارات العالم".

ولقد "أدرك واضعو قوانينها القديمة هذه الحقيقة من بادئ الأمر، وحسبوا لعواقبها الحساب؛ فحرَّموا على الأمة المصرية باسم الدين كل اتصال بالأجانب أو اختلاط بهم؛ خشية أن يستفز هذا الاختلاط هؤلاء إلى محاولة الوقوف على أسرارها والعلم بمواطن ضعفها؛ فينشطوا إلى فتحها وامتلاكها".

ويكمل كلوت بك: "وطالما لبث فريق الكهنوت عزيز الجانب رهيب المقام بكثرة عدده وامتداد نفوذه، واستقرار صولته، فإنه كان يحول دون كل اتصال بالأجانب؛ فأمنت البلاد شرهم ووقت نفسها عاقبة أطماعهم، ولكن ملوك الأسرة السادسة والعشرين رأوا أن يلقوا عن عاتقهم نير النفوذ الكهنتي ويستبدوا بالأمر؛ فمهدوا السبل لذلك الإتصال الذي كانت عاقبته شرا وبالا على مصر؛ إذ بلغ بأحدهم وهو الملك أبساميتك الأول أن اتخذ لنفسه جندا من الإغريق والكارييين واليونانيين المجمكين[1]".

والأسرة 26 مختلف بين علماء المصريات حول أصولها ما إن كانت مصرية حقيقية أم من القبائل وأسرى الحرب الذين استوطنوا مصر في عصور الفتوحات والحروب ضد قبائل شعوب البحر.

ويُفهم من كلام كلوت بك، وغيره من مؤرخين كثيرين رصدوا خطر توطين الهجرات الأجنبية في تاريخ مصر، لو أن الاتصال بالأجانب اقتصر على تبادل التجارة والعلوم لما كان فيه ضرر، أما وقد صمَّ حكام مصر وبعض مثقفيها آذانهم عن صوت الأجداد، وفتحوا البلد لاستيطان هجرات تسللت في أي ثوب، أو استقدموا الأجانب للتوظيف محل المصريين، واعتمدوا هويات أجنبية محل المصرية؛ فزلزلت هنا الأرض الطيبة زلزالها.

نسيان وصية حور "وثيقة العهد"

ومن يطالع تاريخ مصر ووثائقه، يفهم معنى كلام "كلوت بك": " ولقد أدرك واضعو قوانينها القديمة هذه الحقيقة من بادئ الأمر، وحسبوا لعواقبها الحساب؛ فحرَّموا على الأمة المصرية باسم الدين كل اتصال بالأجانب أو اختلاط بهم؛ خشية أن يستفز هذا الاختلاط هؤلاء إلى محاولة الوقوف على أسرارها والعلم بمواطن ضعفها؛ فينشطوا إلى فتحها وامتلاكها".

ولمن يريد أن يطلع على هذه القوانين التي وضعها الآباء المؤسسين لمصر (كيمة)، وعلى رأسهم حور (حورس بالنطق اليوناني) التي ترسم لها حدود علاقتها بالشعوب الأخرى، وكيف تحافظ على حدودها، وكيف تحمي نفسها من خطر السقوط في الاحتلالات وفخ الاستيطان الأجنبي، يمكن أن يرجع إلى "وصية حور" أو "وثيقة العهد الكيمتية" المسجلة في نصوص الأهرام، و "تعاليم ماعت" في المقالات التالية:




ومما جاء في هذه الوصية/العهد على لسان حور، فيما يُعتبر أقدم نص معلوم يجسد معنى "مصر للمصريين"، كما وصف في رسالة الدكتوراة لنجلاء فتحي شهاب بكلية الآثار جامعة القاهرة "القومية وتعبيراتها عند المصري القديم" بأقدم نشيد وطني في التاريخ:

تحية لكِ يا عين حور (مصر)

يا من زينك كاملا بيديه

إنه هو الذي زينك

إنه هو الذي شيدك

إنه هو الذي أسسك

إن الأبواب الموجودة عليكِ تستوي ثابتة مثل "إنموتف"

إنها لا تنفتح لسكان الغرب

إنها لا تنفتح لسكان الشرق

إنها لا تنفتح لسكان الشمال

إنها لا تنفتح لسكان الجنوب

إنها لا تنفتح للقاطنين وسط الأرض

إنها تنفتح لحورس

إنه هو الذي صنعها

إنه هو الذي أقامها

إنه هو الذي نجاها من كل سوء أوقعه "ست" عليها

إنه هو الذي أقام دعائمك

(مراجع ومصادر الوصية وترجمات وشروح أخرى لها في المقالات المرفقة)

حور (حورس) و نصوص الأهرام
يمين الناظر رمز لـ "حور" (حورس) صاحب الوصية وعلى الشمال مثال لمتون الأهرام

ويرصد "كلوت بك" فيما سرده من صفات حسنة وسيئة عن المصريين في كتابه "لمحة عامة إلى مصر" عيبا آخر، ولكنه مرتبط أشد الارتباط بالعيب الأول، أي بعيب نسيان وصية الأجداد، وهو عيب أن المصريين كما لا يتعظون بتاريخهم، فإنهم لا يرون مستقبلهم لأنهم لا يخططون له؛ فيقول:

 "فتراهم لهذا السبب لا يهتمون من شئونهم إلا بما يتعلق منها بحاضرهم، غير ملتفتين إلى مستقبلهم، وهم يشبهون لصوص نابلي لا يحركون ساكنا إلا إذا عضهم الجوع بنابه، فالنظر إلى المستقبل لا يمتد عندهم إلى أبعد من الغد"[2].

بلا ولا أبعد من اليوم، فلا يلتفت إلى الوراء ليدرس تاريخه كما يجب، وينتظر الضربة من العدو قبل أن يتحرك لإزاحته.

فحالة الطمأنينة والاستقرار التي تنعَّم بها المصري بعرقه وقيمه في الماضي، وإحساسه بقوته مقابل غيره من الشعوب، جعله يركن إلى السلام إلى درجة لا يفكر جيدا فيما تدبره له هذه الشعوب حين تتسلل إليه في صورة لاجئ وتاجر وصديق، أو يقبل إحسان معاملتها وتوطينها حين تقع في يديه كأسرى حرب.

"ويبقى أمل"

إلا أن "كلوت بك" خلال رصده لطبع المصريين كما رآهم خلال إقامته للمشاركة في تنفيذ المشاريع أيام محمد علي، وضع يده على الأمل الذي يمكن أن يعيد المصريين إلى وعيهم ورشدهم، ووصايا أجدادهم، وهو حب لوطنهم وفخرهم به رغم ما قاسوه من جوع وقهر ومذابح على يد المحتلين حينها، وإحساسهم الغريزي بتميزه عن أي بلد أخر مهما كان يوصف بأنه بلد متقدم أو متفوق، فيقول تحت تحت عنوان "حب المصريين أوطانهم":

 "لا يوجد بين مخلوقات الله من يذهب المذهب البعيد في حب مسقط رأسه كالمصريين، فإن الفلاحين لا يجدون للحياة معنى ولا لذة إذا ابتعدوا عن النيل الذي يطفئ ماؤه أوار عطشهم، ويروي أرضهم، أو حرموا النخيل الذي يكفي أن يهزوا إليهم بجذعه ليساقط عليهم ثمره فلا يتكبدون في أكله أقل كلفة، ومن ثم تستمعهم إذا حدثوا أوروبيا عن وطنه يسألونه عما إذا كان يجري في أرضه نيل كنيلهم، أو ينبت فيها نخيل كنخيلهم يعطيهم ما يشتهون من غذاء شهي ومرافق أخرى[3]".

________________

بقلم: إفتكار السيد (نفرتاري أحمس)
________________

المراجع:

 ([1])لمحة عامة إلى مصر، كلوت بك، ترجمة محمد مسعود، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2011 ص 499- 500، ص 23- 24
([2])- نفس المرجع، ص 289- 290
([3])- نفس المرجع، ص 289

وللمزيد عن شهادات ورصد خطر توطين الهجرات الأجنبية في مصر من أقدم التاريخ حتى 1952 أنظر:

3 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Legacy Version