تدور
هذه الأيام، عبارة تقول إن من عبقرية مصر أن شعبها
"مالوش كتالوج"، أي لا يتوقع أحد كيف سيتصرف في المصاعب التي تواجهه.
وللحق، وللتاريخ.. هذه عبارة خاطئة تماما، بل مضللة- ولو عن غير قصد- فالشعب "اللي مالوش كتالوج" هو شعب "مالوش أصول راسخة ولا هوية".
فلا ميراث
تاريخي أودستور أخلاقي وفكري يسير عليه، وشعب غير متجانس؛ لذا يصعب عليه وعلى غيره
التنبؤ بردود فعله، وشعب كهذا عند الأزمات والمخاطر يتشتت ولا يصمد، وينهار كبيت
من الرمل مع خبطة أول موجة.
وللحق، وللتاريخ.. هذه عبارة خاطئة تماما، بل مضللة- ولو عن غير قصد- فالشعب "اللي مالوش كتالوج" هو شعب "مالوش أصول راسخة ولا هوية".
يمين القارئ ماعت (من مقبرة سبتاح) وعلى الشمال بردية إيبور (متحف الآثار الوطني بهولندا) |
أما
شعب مصر، أقدم وأرسخ أهل الأرض كشعب واحد له هوية ورسالة، فإنه ابن أصول وطبع
وهوية واضحة كشمس رع[1]،
والشعوب الأخرى تعرفه، أما من لا يتوقع ردود فعله في بعض المواقف، فهذا جهل منه
بطبيعته وتاريخه، أو ظن أن الخطط التي وضعت لتدمير وإفساد المصريين في العصور
الأخيرة أتت ثمارها ودمرته تماما.
فللمصريين "كتالوج"، بل ولهم "كتالوج للصعود والعمار"، واضح جدا هو"ماعت"،
وآن الأوان أن ينتبهوا له، فحينما يتبعونه ينجون من
كل مكيدة وتوهان، ولهم "كتالوج للسقوط والدمار" واضح جدا، هو "إزفت"،
حينما يتبعونه يسقطون أشنع سقطة.
وسجَّل
هذا لنا بتاح حتب في الأسرة 5:
كما ترك لها الأجداد
في "متون الأهرام"- وهي النصوص
المقدسة التي نقشوها على جدران أهرامات الأسرة 5 و6- وصية خالدة، نادرا ما يتذكرها
المصريون أنفسهم، وهي ما يمكن أن نسميها بـ"وصية حور"، أو "وثيقة
العهد"، أو "وصية العهد"، وهي التي يطالب فيها "حور"
(حورس بالنطق اليوناني فيما بعد) مصر بأن لا تفتح أبوابها وحدودها لهؤلاء القادمين
من الشمال أو من الشرق أو من الغرب أو من الجنوب، وألا تستورد أي ثقافات أو هويات
من خارجها ومن الأشرار، وألا تستمع إلا إلى "حور"، ولا تطبق إلا تعاليمه
في تدبير أمورها، لأنه هو الذي أسسها ووضع لها أسباب قيامها وحياتها.
ومن ضمنها يقول:
"إن البوابات التي
فوقك كبوابات حامية.... إنها سوف لا تفتح للغربيين، إنها سوف لا تفتح للشرقيين،
إنها سوف لا تفتح للجنوبيين، إنها سوف لا تفتح للشماليين، إنها سوف لا تفتح لهؤلاء
الذين في وسط الأرض، إنها سوف تفتح لحورس"[3].
وفي ترجمة أخرى وكاملة لهذه الوصية، أو هذا العهد، قام
بها هنري بريستد في كتابه "تطور الفكر والدين في مصر القديمة"، يقول النص:
التحية لك يا عين حور (مصر)
التي زانها بكلتا ذراعيه
إنه لا يسمح لكِ (يا مصر) أن تصغي إلى
أهل الغرب
إنه لا يسمح لكِ أن تصغي إلى أهل
الشرق
إنه لا يسمح لكِ أن تصغي إلى أهل
الجنوب
إنه لا يسمح لكِ أن تصغي إلى أهل
الشمال
إنه لا يسمح لكِ أن تصغي إلى القاطنين
بوسط الأرض
ولكن تصغين إلى حورس
إنه هو الذي زانك
إنه هو الذي شيدك
إنه هو الذي أسسك
إنك تفعلين لأجله كل شيء يقوله لكِ
ولكن سنفرد لها مقالة خاصة (المقالة القادمة إن
شاء الله) لنشرها كاملة لأنها تستحق أن تُعرف بتفاصيلها، لأنها من مفاتيح تفسير
أسباب سقوط مصر في الفوضى والاحتلالات حين خالفها الأجداد والأحفاد.
وهنا..
نبدأ أمثلتنا الشاهدة على ذلك من تاريخنا، وفيها نختبر صحة أو خطأ ما ورد فيما
يمكن أن نسميه المبادئ الـ 17 من "دستور عمار مصر"، و"دستور سقوط
مصر"، أي "أصول حياة المصريين"، و"دستور الشيطان".
▲▲▲ "ماعت"
و"إزفت"
سمَّى
أجدادنا الحق والنظام والأصول الصحيحة لحياتهم ومبادئهم وشريعتهم بكلمة "ماعت"،
والتي باتباعها تعيش مصر حياة سليمة مطمئنة هنية، وقالوا إنهم من أنزلها إلى مصر
هو "رع".
ويصفها
علماء المصريات الأجانب بأنها (النظام، والحق، والصدق، والعدالة، وحفظ التوازن
الكوني والبيئي)[4]،
فيما اختصرها علماء مصريون بتعبير مصري بليغ هو "الأصول"، و"دستور
المصريين".
أي
الأصول التي تأسست عليها مصر فيما يخص علاقتها بالإله خالقها وبالدولة، وتناسبها
في نظام الحكم المركزي والاقتصاد والعمارة والعادات والتقاليد والعلاقات الأسرية
والأخلاق وعلاقة المصريين ببلدهم وببعضهم وبالأجانب وبالكون كله، بل وترسم هدف
المصريين من الحياة نفسها.
يقول
أحد أعمدة علم المصريات في العالم د.علي رضوان[5] إن "ماعت"
بالنسبة للمصريين هي "ناموس الحياة"، أي قانونها ودستورها، الذي وضعه
"رع"
ليكون فيه خير البشر والكون، وببساطة هي "اتباع السلوك السليم، والنهج
القويم، والخلق الكريم".
وتحدثت نصوص الأهرام ((Pyr.1775 عن
فضل إشاعة "ماعت" في الكون، فنسمعها تقول: "إن السماء
تكون في سلام، والأرض تكون في سرور، ذلك أنه قد أُشيع أن الملك سوف يضع "الماعت"
لتحل محل (الباطل)"[6].
وفي
نص إصلاحات توت عنخ آمون ورد: "لقد أزاح الفوضى عن الأرضين (الوجهين القبلي
والبحري) حتى تكون ماعت
هي الباقية[7]"،
فهدف حياة المصريين هو إقامة "ماعت".
ولأنها
الأصول الغير قابلة للتغيير مهما تبدلت الأحوال والعصور، قال عنها الحكيم
"بتاح حتب" في الأسرة 5:
"إنها لا تتغير ولا تتبدل منذ زمن الذي أوجدها"
أي منذ الزمن الذي كان يحكم فيه "رع" الأرض مباشرة قبل أن يخلق البشر ليكونوا خلفاء له في حكمها، وأوصاهم بتنفيذ شريعته في الأرض "ماعت".
"إنها لا تتغير ولا تتبدل منذ زمن الذي أوجدها"
أي منذ الزمن الذي كان يحكم فيه "رع" الأرض مباشرة قبل أن يخلق البشر ليكونوا خلفاء له في حكمها، وأوصاهم بتنفيذ شريعته في الأرض "ماعت".
وجاء
في نصوص الأهرام Pyr, 265 عن الحاكم الصالح أنه "الذي يضع الماعت في مكان الباطل"،
أي بدل الباطل[8].
وينبه
بتاح حتب إلى أن: "الذي يفعل الماعت
فذلك الذي يكون بعيدا عن الضلال"، وفي موضع آخر يحذر من أنه "يحل العقاب
دائما بالذي يتخطى قواعدها"، أي يتعدى حدود الماعت[9].
وسجَّل
الفلاح الفصيح في شكواه الثالثة إلى المسئول الحكومي: "إن صلاح الأرض [مصر] ينحصر في تطبيق الماعت"[10]،
أي الحق والأصول.
ومجلس
ماعت (محكمة الأرباب) هو الذي قضى بحق حور (حورس) في عرش مصر خلفا لأبيه أوزير[11] بعد أن سيطر عليه "سيت" في أقدم قصة مصرية
تحكي انتصار الحق على الباطل.
ولشريعة
"ماعت"
أكبر الأثر في تشكيل شخصية المصريين ونفسيتهم، فانعكست على أعمالهم، بل وعلى
وجوههم، سواء الحقيقية أو التماثيل، فتحب النظر فيها، لأنها تشعرك بالسماحة
والسكينة والطمأنينة والحيوية والأمل، وترى فيها حلاوة مهما كان حظ ملامحها من
الجمال.
الرمز المشهور لـ"ماعت" بجناحيها لحماية مصر إذا التزمت بتعاليمها- من مقبرة نفرتاري |
وفي
مقابل "ماعت"
توجد الفوضى، وهي تطفو بضياع الحق والأصول، وتشتت الفكر، وانهيار الأخلاق والحكومة
المركزية التي تحفظ وحدانية مصر ومبادئها، وبفتح الحدود أمام الهجرات الأجنبية
القادمة بهويات ومطامع وأرواح معاكسة لـ "ماعت"، وسمى
الأجداد هذه الفوضى بـ "إزفت"، وهي الكلمة التي ما زلنا نستخدمها حتى
اليوم، بنطقها "زفت" أو "زفتة"، وتعنى الباطل والخراب والضياع
والمذلة[12]،
وهي الشر الذي من أهداف حياة المصريين محاربته تقربا إلى الإله.
ولم
يترك لنا الأجداد كتابا جامعا لقوانين ومبادئ "ماعت"،
أو ربما تركوا ولكن لم يعثر عليه العلماء، لكنهم تركوا مقتطفات تدل عليها، من
نصائح وتعاليم الحكماء في التربية والسلوكيات والمعاملات مع الإله والناس
والحيوانات والنباتات والبيئة والتجارة، أو في نظام حكم مصر نسبوها لـ"ماعت"،
وتعاليم وأوامر الحكام للوزراء عن الطريقة الأحسن لمعاملة الناس، وعن دور الحاكم
في الأرض ونسبوها لـ"ماعت" وتقاليد مصر في
التعامل مع الشعوب الأخرى في السلم أو حين غزوا مصر، والتي استقوها أيضا من "ماعت"..
فهي منهج وطريقة الحياة.
ومنها
يمكن أن نستقي ونستخرج ما يلي:
▲▲▲ (دستور المصريين)
أبرز مبادئ "ماعت" (الأصول) لعمار مصر:
1- الأخلاق الطيبة وتقوى اليوم الآخر
2-
حياة المصريين مع بعضهم قائمة على الإخوة والتعاون
3-
هدف حياة المصري نصرة الإله الخالق على الشيطان
4-
وظيفة الحاكم تطبيق "ماعت"
باعتباره خليفة للإله (صانع ماعت) في حكم مصر
5-
الحكم المركزي للدولة
6-
النظام الهرمي في علاقات الأسرة، وإدارة الحكم
7-
منع ظهور مراكز قوى اقتصادية أو اجتماعية تناطح الحكومة
8-
السلاح حصري بيد الدولة
9-
مصر فوق الجميع
10-
مصر أمة بذاتها، حصرية لأهلها
11-
اليقظة الدائمة لبوابات حور (الحدود) وطرد المتسللين
أولا بأول
12-
الاعتماد على البيئة المصرية في تدبير احتياجات البلاد
13-
منع استيراد هوية من الخارج في الفن والثقافة والاقتصاد والدين والحكم وحتى المظهر
14-
العلاقات مع البلاد الأخرى في حدود التعاون لتبادل التجارة والخبرات بما يحفظ
مصلحة مصر، لا اندماج ولا انصهار
15-
نسالم من يسالمنا، نعادي من يعادينا
16-
إحياء ذكرى وحكمة الأجداد ورموز مصر
17-
العَدَل والوسطية في كل أمر
▼▼▼ دستور الشيطان
لمصر
أبرز أسلحة
"إزفت" (الفوضى والهرم المقلوب) لإسقاط مصر:
1- ضياع الأخلاق وانتشار الإلحاد
2-
حياة المصريين مع بعضهم تقوم على التناحر والتنافس
3-
هدف الحياة نصرة الشيطان على الإله الخالق
4-
الحاكم سلطته شكلية ولا وصاية للدولة في حفظ مبادئ وهوية المصريين
5-
الدولة اللامركزية
6-
العشوائية وزوال الحدود في العلاقات الأسرية وفي نظام الحكم
7-
ظهور مراكز قوى اقتصادية واجتماعية تناطح الدولة في الحكم والقرار
8-
السلاح مشاع للجميع
9-
تشتت الولاءات لتيارات ومذاهب وجماعات بعيدا عن مصر
10-
مصر مشاع لكل الشعوب (تدويل مصر[13])
11-
التراخي في حماية بوابات حور (الحدود) من تسلل
الأجانب، وقبول توطينهم
12-
الإسراف في استيراد البضائع
13-
استيراد الهويات الأجنبية ونظم الحياة والحكم المعلبة
14-
العلاقات مع العالم تتعدى حدود التعاون، إلى الاندماج والانصهار
15-
نعادي من يسالمنا، نسالم من يعادينا، ونكافئه
16-
تحقير الأجداد وترك رموز مصر إلى الرموز الأجنبية
17-
التطرف في كل أمر
هذه
النقاط لم ترد نصا هكذا في بردية واحدة، ولكنها خلاصة يستشفها الباحثون في النصوص
المتعلقة بـ ماعت، و و"صية حور"
(وصية العهد) السابق الإشارة إليها، والأوامر والنواهي في وصايا الحكماء والأجداد،
وفي الخطوات التي اتخذها الأجداد وأدت لصعودهم، وأيضا التي اتخذوها وأدت لسقوطهم،
وجمعها علماء المصريات في كتبهم الخاصة بشرح فكر وفلسفة وحياة الأجداد (أمثلة لهذه
الكتب في المراجع أسفل المقالة).
كذلك من الدساتير ووثائق العمل السرية والمعلنة للتنظيمات الدولية السرية التي ظهرت في القرون الأخيرة وأعلنت بوضوح خططها ووسائلها لنشر الفوضى والحروب في العالم، وهي لا تختلف كثيرا عن مفهوم المصريين لـ"إزفت" وكان لمصر من شرور هذه المخططات وخططها نصيب كبير في أيام حريتها واحتلالها على السواء.[14].
كذلك من الدساتير ووثائق العمل السرية والمعلنة للتنظيمات الدولية السرية التي ظهرت في القرون الأخيرة وأعلنت بوضوح خططها ووسائلها لنشر الفوضى والحروب في العالم، وهي لا تختلف كثيرا عن مفهوم المصريين لـ"إزفت" وكان لمصر من شرور هذه المخططات وخططها نصيب كبير في أيام حريتها واحتلالها على السواء.[14].
▲▲▲ السقوط الكبير
فيما
يخص مكانة "ماعت"
و"إزفت" في العصر العتيق
والدولة القديمة، فإنه على مدار ألف سنة (منذ مينا حتى الأسرة 6) اتبعت مصر وصفة
عمارها وهي "ماعت"؛
فقام بها نظام قومي ثابت الأركان، يمثله ويحافظ عليه الحاكم بصفته نائبا عن الله
في تطبيق "ماعت" على الأرض[15]،
وأثمرت أعظم الإنجازات التي ما زالت تبهر الدنيا حتى اليوم من دولة كاملة، وشعب
واحد، وقيم أخلاقية عظيمة، ولم تكن الأهرام والمشاريع الضخمة سوا تجليات لها.
لكن..
نهاية الأسرة 6 سقطت مصر في واحدة من أشنع "الزفتات" في تاريخها. فكيف
تركت نفسها لتسقط هكذا؟
❶ طاعون اللامركزية
بدأ
انهيار مصر تدريجيا في الأسرة 6 (التي استمرت 260 عاما) باتباع حكامها وبعض
مثقفيها- بلا وعي- وصفة الفوضى "إزفت"؛ فنهشتها الطواعين بكل وحشية
وقسوة.
ففي
ذلك العصر كثرت عطايا الحكام من الأراضي لكبار رجال الدولة، وبمرور الوقت تضخمت
الثروات في أيديهم، وتكونت عائلات ذات سطوة، وفي نهاية الأسرة اهتزت هيبة الحاكم
وقوة الحكومة المركزية مع مطامع مراكز القوة الصاعدة- الموظفين الكبار والعائلات
الثرية- في الاستحواذ على نصيب من السلطة[16]،
وصار لهم فعلا في محافظاتهم سلطة وكلمة قوية في الإدارة تساوت مع سلطة حاكم
الدولة، بل وزادت عليها في النهاية، وبالتدريج بسطوا نفوذهم على معابدها وضرايبها.
ومع
الزمن، اعتبر بعض المحافظين أن المحافظات (تُسمى في كتاب علماء الآثار أقاليم) حكرا خاصا على عائلاتهم في مناصبها وإدارتها
ومالها، حتى في أمور القضاء، ووصلوا لدرجة توريث المنصب لأولادهم بعد أن كان منصب
المحافظ بالتعيين من جانب الحكومة، وامتنعوا عن إرسال الضرايب وعائدات الموارد
للخزينة العامة بالعاصمة منف، وعن إرسال الشباب للتجنيد، فانهار أعظم ما تم بناء
مصر على أساسه، وهو الدولة المركزية الحازمة ونظامها الهرمي[17].
وانعكس
هذا على موظفي الدولة الأصغر، ففي رسالة رد بها قائد صغير على وزير عصره، رفض طلبا
له بأن يذهب مع فرقة من الجند يعملون في طرة إلى العاصمة لتوزيع الكساوي عليهم في
احتفال خاص، وقال القائد للوزير إن هذا الأمر يتطلب التضحية بـ 6 أيام هو أحوج إليها لأداء ما أوكل إليه من المهام،
أما توزيع الملابس على الجند فيمكن أن يتم في يوم واحد إن أرسلها الوزير إلى الجند
في مكانهم مع رجال البريد[18].
وغير الواضح ما الذي دفع الحكام إلى الصمت أمام
توسيع صلاحيات المحافظين وكبار الأغنياء في إدارة الدولة، إلا ما تكشفه آثار قليلة
عن دخول العيلة الحاكمة في علاقات نسب معهم وتزاوج السلطة والمال، فمثلا
ورث ببي الثاني في نهاية الأسرة 6 الحكم عن أبيه ببي الأول وهو طفل ابن 6 سنين،
فصار الوصي عليه أمه وخاله، وكان خاله من أسرة لها سلطة في الوجه القبلي، وأتاح
صغر سن ببي الثاني له إدارة شئون الدولة ككل.
وشكَّل
ضعف شخصية ببي الثاني عاملا إضافيا لطمعهم في مزيد من السلطة، وإلى جانب ذلك طال
حكم ببي الثاني إلى فترة مهولة، 90 سنة (مات وعمره حوالي 96 سنة)، فلم تتوفر فرصة
لظهور حاكم قوي يزيل آثار أخطاء سابقيه قبل أن تستفح[19].
فلت
الزمام من يد الحكومة المركزية، حتى عجزت عن أن تفرض علي المحافظين تطهير قنوات
الري وصيانتها لضمان توزيع مياه الفيضان وإدارة الزراعة بما يحمي البلاد من فترات
الجفاف[20].
❷ طاعون توطين الأجانب
واستفحل
الأمر باستعانة محافظين بالأجانب الذين تسللوا واستوطنوا مصر في عمل فرق قتالية
تشتغل لصالحهم، فعاثوا في الأرض فسادا في الأرض دون خشية من الحكومة[21]،
ويبدو أنهم من نسل الأجانب المستمصرين زورا أيام منذ أيام حملة قائد الجيش
"وني" لطرد المتسللين لمصر من الحدود الشرقية في الأسرة 5، الذين كانوا
يقيمون قرب الحدود الجنوبية والحدود الغربية، وظن فيهم الإخلاص، واستقدموا آخرين
من خلف الحدود، واكتشفت الحكومة متأخرا أن أعناقهم ما زالت تشرأب لحكم مصر نفسها.
وإضافة لهؤلاء، تضخم الخطر الأجنبي في مصر بالهجرات
الأمورية[22] التي كسر "وني" شوكتها في فلسطين ]كنعان[ في عهد "ببي
الأول"، فقد تجرأت على حدود مصر من جديد، وهددوا طرق تجارتها مع الشام، ثم
تسربت إلى أراضي الدلتا لتستقر فيها، وعجزت الحكومة المفككة عن تأديبهم وإلزامهم
حدود الطاعة[23].
وترتب
على هذه الأوضاع انتشار الفساد، وقلة محاكمة الفاسدين، والإهمال في رعاية مشاريع
الري، فانتشر السخط بين الناس، وزاد السخط أكثر بتجرؤ الأجانب المستوطنين على
المصريين بعد أن تعلموا حرفهم وأسرارهم، ولم يردعهم شيء عن نشر الجرائم والنهب، وساعدهم
في ذلك تسلح من التحق منهم بالجيش والخدمات الأمنية، وقدوم غزوات جديدة من الشرق
استغلت الحدود المهملة.
عبرت
عن هذه الأحوال بردية مشهورة باسم بردية الحكيم "إيبو ور" أي إيبو
العظيم[24]،
وهو رجل يبدو من حديثه المتسم بالفجيعة في البردية أنه كان معاصرا للأحداث، وذا
مقام رفيع، وبعد أن سرد صورا باكية لها، وجه اللوم الشديد للحاكم في ذلك الوقت،
محملا إياه نصيبا كبيرا من المسئولية، لأنه كان يرى الأمور تستفحل والأجانب
يتزايدون في البلاد، ولا يحرك ساكنا.
فعن
سيطرة الأجانب على الحرف والصناعات في البلاد بعد أن تعلموها واحتكروها وقللوا فرصة
أهلها في العمل قال "إيبو ور": "انظر! لا صانع يعمل، والعدو يحرم
البلاد حرفها[25])"،
و"أصبح الأجانب مصريين في كل مكان"؛ أي تجرأوا على أن يضعوا أنفسهم موضع
المصريين في هذا الانقلاب العام [26].
ولأن
الأجانب معتادون على حمل السلاح في بلادهم نقلوا هذا الأمر لمصر، فانتشر السلاح في
الشوارع، وفي هذا يشكو "إيبو ور": "(والبلاد) ملأى بالعصابات،
ويذهب الرجل ليحرث ومعه درعه... حقا فإن الوجه قد شحب، وحامل القوس أصبح مستعدا،
والمجرمون في كل مكان، ولا يوجد رجل من رجال الأمس... حقا إن الناهبين في كل مكان[27]".
وحامل
القوس صفة أطلقها المصريون بشكل عام على القبايل التي تهاجم الحدود من حين لآخر،
لأنها تهاجم المصريين من على بعد برمي الأقواس لتتجنب مواجهتهم في فترات قوتهم.
بردية إيبور (متحف الآثار الوطني بهولندا) |
ويواصل
"إيبو ور": "حقا فإن المواطنين قد ألقي بهم على أحجار الطواحين.
وهؤلاء الذين كانوا يرتدون الكتان الجميل أصبحوا يُضربون[28]"،
"لقد أصبح بناءو (الأهرام) عمالا في الحقول[29]"،
بعد أن توقفت حركة بناء المشاريع العظيمة.
وإذا
ما سقطت الدولة الحاكمة، وانتشرت عادات الأجانب، وانفتحت شهيتهم للنهب، وصار صوت
الفاسد هو الأعلى، يحل غضب الإله، وتغوص "ماعت" في الظلام، فتذبل
الأخلاق، ويجد الشيطان فرصته لتحريك النفوس الضعيفة. وفي ذلك حكى "إيبو
ور": "حقا لقد... عمت الوقاحة (في كل البلاد) عند كل الناس. والرجل يقتل
أخاه من أمه. فما العمل في ذلك؟[30]".
بل وصل الأمر للتجرؤ على مؤسسات الدولة، بما فيها
المحاكم (مقر ماعت) ذات القدسية في النفوس.
ويصف
"إيبو ور" هذا المشهد الذي ندهش لتكراره في تاريخ مصر كثيرا في زمن
الاحتلالات وحتى فوضى 2011: "لقد سلبت كتابات قاعة المحاكمة الفاخرة، وأصبح
المكان السري مكشوفا (...) وفي الحق لقد فتحت الإدارات العامة، ونهبت قوائمها،
وصار العبيد أصحاب العبيد، وفي الحق لقد ذبح الموظفون وسُلبت قوائمهم، فتعسا لي
بسبب البؤس في مثل هذا الزمن! (...)[31]".
ويستمر
في وصفه بحسب ترجمة د. سليم حسن: "ألقيت قوانين دار القضاء في العراء، ووطئت
بالأقدام في الشوارع، ومزقها الغوغاء في الأزقة، وأخذ العوام يروحون ويجيئون في
دور (القضاء الكبيرة)، ونُفِى القضاة في الأرض، واحترقت البوابات والأعمدة
والأسوار[32]".
ووفق
سليم حسن في سفره الضخم "موسوعة مصر القديمة" فإن هذا السلوك يعبر عن
منتهى سقوط الدولة وقتها، فقد "كانت هذه فعلة شنعاء في نظر النظام المصري؛ إذ
كان سحب الكتابات والوثائق من المصالح العامة للاستشهاد بها أو للإطلاع عليها من
الأمور المنظمة تنظيما دقيقا[33]".
ووصل
الأمر لمنتهاه، وربما الهدف من كل هذه الفوضى، فيقول "إيبو ور":
"لقد تجاسر بعض الخوارج فحرموا البلاد المَلَكية (الحكم المركزي)[34]..
انظر! إن سر الأرض (مصر) الذي لا يعرف أحد حدوده قد أفشي، وأصبح مقر الملك رأسا
على عقب.. انظر! إن مصر قد أصبحت تصب الماء ]لغيرها[[35]".
و"تصب
الماء لغيرها" أي أن مصر تبدل حالها من أنه بعد أن كان الجميع يخدمها، باتت
تخدم غيرها من الأجانب.
ويكمل
الحكيم مندهشا ملتاعا: "والأجانب الذين كانو يخشونها والذين عرف الشعب
(تفاهتهم) أصبحوا يقولون لن تستطيع مصر أن تأتي شيئا، فالرمال (المحيطة بها) هي كل
حمايتها![36]".
وظهر
عجز الدولة عن كبح جماح الجنود الأجانب في جيشها بحيث "أصبحت خيرات مصر نهبا
مشاعا" لكل من نزلها من غير أهلها، بحسب عبد العزيز صالح مترجما بدوره قول "إيبور
ور" عن هذا: "إن الجنود الذين جندناهم من أجل صالحنا أصبحوا ضمن
الأسيويين، ألا بعدا للخراب الذي حدث (في مصر)، فقد جعل الأسيويين يعرفون أحوال
البلاد[37]".
وربما
المعنى أن المجندين من الليبيين والكوشيين انضموا للمستوطنين وللغزاة القادمين من
الشام في تحالف ضد مصر لنشر الفتن والسيطرة عليها بعد أن عرفوا أسرارها لطول
إقامتهم.
وعجزت
الدولة عن صد هجرات جديدة للبدو استغلت الأمر؛ فتجاوزوا حدودها، وتسربوا إلى أراضي
الدلتا، وشاركوا المصريين معايشهم، واعتبروا أنفسهم من أصحاب البلاد وخاصة أهلها[38].
ويواصل
الحكيم في والألم يحز في نفسه شارحا كيف استغلت القبايل والجماعات التي تراقبنا
وتترصد أحوالنا وراء الحدود، كيف استغلت هذه الفوضى لتضرب ضربتها: "تخربت
الأقاليم، وتوافدت قبائل قواسة غريبة إلى مصر، ومنذ أن وصلوا لم يستقر المصريون في
أي مكان (...) وأصبح الأجانب مصريين في كل مكان... وأولئك الذين كانوا مصريين
أصبحوا أغرابا وأهملوا جانبا".
فصار
المصريون أغرابا في أوطانهم، يعاملون كأنهم من درجة أقل من الأجانب، وانطبق عليهم
حقا المثل المصري: "البيت بيت أبونا، والغرب بيطردونا"، وكان من الطبيعي
أن يعز الأمن في البلد: "(يقولون) الطرق محروسة، ولكن القوم يختبئون على
الأشجار حتى يأتي سارٍ بليل فينهبون ما يحمله ويسلبونه ما عليه، ويشوهون وجهه
بالعصا، وربما قتلوه ظلما[39]".
وتأثر
الوجه البحري بشدة باضطراب الأمن لقرب طرفيه من الغزاة الآسيويين في الشرق والقادمين
من ليبيا في الغرب، ويصف "إيبو ور" حاله: "أصبحت أراضي الأحراش (أي
الوجه البحري) كلها غير مستورة، وامتلأ قلب الوجه البحري بالطرق المطروقة، ولكن ما
الذي يستطيع الإنسان أن يفعله؟..".
وتخاصم
المحافظون مع بعضهم، واستأثر بعضهم بثروات محافظاتهم، ومنعوا عن خزائن الحكومة المركزية
ضرايب أغلب مناطق الصعيد، وعلقت بردية "إيبو ور" على هذا: "الحق أن
أسوان وجرجا في أرض الصعيد لم تعودا تؤديان الضرائب نتيجة لشيوع الفتن، فعزَّ
الغلال..، ومنتجات المصانع، فكيف يسير بيت المال إذن بغير موارده؟....قَلَّت سفن الصعيد،
وتخربت المدن، وأصبح الصعيد خرابا يبابا[40]".
وعلى هذا: "أصبحت العاصمة (منف) في خوف من
العوز، والناس يأكلون الحشائش ويتبلعون بالماء"، بحسب تعبيره، إضافة
إلى توقف سبل التجارة مع غرب آسيا بعد أن هددتها الهجرات الأمورية، فيكمل:
"ما عاد أحد يبحر اليوم نحو جبيل، فما الذي سوف نفعله إذن بخصوص أخشاب الأرز
(التي اعتدنا أن نصنع منها) توابيتنا، والزيوت التي يحنط الكبراء بها، و(ترد من)
هناك، ومما يجاور كفتيو ]تكريت[. ما عاد يأتي من ذلك شيء حتى أصبح مجيء أهل الواحات بمنتجاتهم
(البسيطة) شيئا ذا بال"[41].
وشاع
الهرج والمرج خلال فترة الانقلاب على الدولة، ووصفه "إيبو ور" بكلمات
بليغة: "عزَّ الابتسام وما عاد أحد يبتسم، وأصبح الحزن يسود البلاد...، وما
عزَّ الصخب في سنوات الصخب (حتى بدا كأنه) لا نهاية للصخب"، وكنتيجة:
"قست القلوب، وغزا الوباء الأرض، (وسرى) الدم في كل مكان، وأصبح مجرى النهر
قبرا، وغدا مكان التطهر فيه بلون الدم، وإذا قصده الناس ليرتووا منه عافوا جثث
البشر وظلوا على ظمئهم إلى الماء[42]".
ويصف
علماء هذا الوصف بالمبالغة، لكن من سيتابع ما سيحصل للمصريين من مذابح ومجاعات
وغوص الأعادي والمستوطنين الأجانب في دمائهم وأعراضهم خلال عصور احتلالات التالية،
لن يشعر أن ما وصفه الجد "إيبو ور" كان مبالغة.
وصوَّر
حيرة الناس في هذه الفوضى بأنهم كانوا رجالا ثلاثة: رجلا يعلم ما حدث ويوافق عليه،
ورجلا يجهل تماما، وثالثا علم بما حدث ولكنه لا يدري إن كان خيرا أم شرا، وكره بعض
الناس دنياهم وآثروا الانتحار، سواء لضياع حقوقهم القديمة، أو لأسفهم عما أصاب
المعابد والمقابر، أو لأسفهم عما أصاب بلدهم من اضطراب لم يعرفوا علاجه.
ويقول:
"وفارق النبل الدنيا، وأصبحت ربات البيوت يقلن أني لنا ما نأكله, وذبلت
أجسادهن في الأعمال, وتحطمت قلوبهن من ذل السؤال[43]".
ووصل
الأمر لانتهاك حرمة الموتى والتجرؤ على الأهرام، وهو من أشد الفواجع التي قال عنها
"إيبو ور" متعجبا: "فقد وقعت أحداث لم نسمع عنها منذ ظلمات الماضي
السحيق. إذ قامت الغوغاء بخلع الملك! أجل إن الذي دفن بصفته "الصقر" قد
انتزعوه من تابوته! لقد نهبت حجرة الدفن وسلب ما بها! ووصل بنا الأمر إلى الحد
الذي قامت زمرة من الأفراد- تجهل كل شيء
عن أمور الحكم- بتقويض النظام الملكي ]الدولة المركزية[ في البلاد[44]".
وفي
إشارة إلى أن سرقة الأهرامات وسرقة أجساد الملوك من توابيتها تم منذ ذلك الوقت قال
"إيبو ور" : "ومخبأه ]أي تابوت الملك[ الأهرام قد أصبح خلوا"[45].
وانتهكت
المقدسات؛ فلم يقف المهاجمون عند حد حرمان البلاد من حاكمها، وهو الضامن الأوحد
لاستتباب النظام، بل دمروا جسد الحاكم المتوفى فحرموا بذلك الأجيال السابقة من
حياة الآخرة؛ فكان الظن أن سلامة الجسد تساعد الروح في التعرف على صاحبها.
وبتعبير
سليم حسن، لقد قوضوا بفعلتهم الشنعاء هذه بنية الهرم الكوني؛ فتصدع وتداعى، وأصبحت
مصر "عالما مقلوبا رأس على عقب"، فوقعت فريسة الفوضى الواقفة لها
بالمرصاد لتنقضِ عليها كلما تقاعس الملك عن واجباته أو اختفى[46].
والمقصود
بالملك هنا ليس الحاكم في حد ذاته وحده، وإنما الحكومة المركزية ككل ونظامها (ماعت).
وموجها
اللوم بقوة للحاكم الموجود وقتها، ولكنه بلا حول ولا قوة، قال له "إيبو
ور": "إن القيادة والفطنة والصدق معك, غير أن ما تبثه في طول البلاد
هو الفوضى وغوغاء الذين يتخاصمون (...) فالأكاذيب تتلي عليك، والبلاد قش ملتهب[47]".
أما
رد الحاكم عليه فجاء كصوت يائس يقول إنه حاول حماية شعبه بالوقوف في وجه الغزاة
والأجانب الذين كانوا يهاجمون البلاد، فجاوبه "إيبو ور" بأن هذا لم يكن
كافيا، وإنه يعلم حسن نيته ولكن ذلك لا يكفي: "إنك جعلت الناس يعيشون بسبب ما
فعلته ] من محاولات صد الفساد والإهمال والأجانب في وقت متأخر [ولكنك
تغطي وجوههم خوفا من الغد"[48]،
إشارة فيما يبدو إلى أن الحاكم لم يكن من الشجاعة والبصيرة أن يواجه نذر الخطر من
البداية ويكاشف شعبه بها.
وكما
وجه الكاتب اللوم للحاكم لأنه تهاون وهو يتابع هيبة وحدود الدولة تتهاوى، وجه
اللوم لنفسه وبقية الناس الذين لم يتحركوا أو يطلقوا تحذيراتهم بقوة من البداية،
فقال: "ليتني رفعت صوتي في ذلك الوقت حتى كنت أنقذ نفسي من الألم الذي أنا
فيه الآن. فالويل لي؛ لأن البؤس عمَّ في هذا الزمان[49]".
ببي الثاني وأمه عنخ إس مري رع (متحف بروكلين) وغير معلوم إن كان ببي الثاني هو الملك الذي وجه له إيبور اللوم في البردية أم لا؛ لأن الجزء المكتوب فيه اسم الحاكم ممزق |
وفي
إشارة إلى أن هذه الفوضى لم تكن تلقائية، وإنما كان وراءها تدبير محكم قال
"إيبو ور": "وانقلبت العاصمة في ساعة"، "وقلبوا أوضاع
العاصمة رأسا على عقب، واقتحموا دواوينها ومزقوا وثائقها[50]".
وتزخر
كتب علماء الآثار التي تتناول هذه البردية بالقول إن سبب هذه الفوضى الجامحة وغير
المعتادة في مصر هو انتشار المجاعات والفساد وسوء الحكم، أي لأسباب داخلية محضة،
ولذا سموها بـ"أول ثورة اجتماعية أو شعبية في التاريخ".
غير
أن الأمر يحتاج لإعادة نظر، وأن يبتعد المفسرون عن تأثرهم بالنظريات الاشتراكية
الماركسية في تفسير الثورات، والتي تحصرها في فساد وتسلط الحاكم والفقر؛ فالمجاعات
والفساد سبب صحيح، لكن ظهرا في مصر في عدة عصور ولم يقدم الشعب على تخريب بلاده،
بما فيه الاعتداء على حرمة الأموات والمحاكم والمعابد ومؤسسات الدولة وبهذا الغِل،
أو انتشار أعمال القتل والدم بهذه الغزارة.
والنظر
للعلاقة بين هذه الفوضى وبين ظهور مراكز قوى فاسدة تناطح الدولة، وانفتاح البلاد
على الأجانب بشكل واسع، وقيامهم بنشر الفتن في كل مكان، خاصة مع اختلاف التقاليد
بين الأجانب المعتادين على العنف والتسلط على غيرهم وبين الشعب المصري المسالم
الغافل عن التآمر قد يوضح الصورة أكثر لنخرج بتفسير أصح، ويناسب الظروف المصرية.
وفي
ذلك يقول الدكتور عبد العزيز صالح في كتابه "الشرق الأدنى القديم": "وتجمعت عيوب النظام القديم مع سوءات المهاجرين واضطراب الثائرين
والموتورين[51]".
ويرفض نيكولا جريمال في كتابه "تاريخ مصر القديمة" أن تكون هذه الفوضى الدامية ثورة شعبية، فيقول:
"ويرى البعض أن الأزمة التي اجتاحت مصر هي ثورة اجتماعية، وهو أمر مستبعد؛
نظرا لأنها لم تفضِ إلى شكل جديد من الحكومات، بل استمر النظام القديم، وهو نفس ما
حدث بعد كل "عصر انتقالي"، فما يرويه "إيبو ور" من أحداث إنما
يشبه هبة أكثر شرائح المجتمع حرمانا، والتي لم تتحرك بسبب ما تعانيه من ظلم
اجتماعي، وهو أمر بعيد كل البعد عن روح النظام السياسي السائد، إنما حدث نتيجة
تأثيرات خارجية وفدت على مصر لتجد تربة صالحة في بلد أصابه الوهن والإنهاك[52]".
أي
أن وجود عدد كبير من الأجانب، ومن قبائل ومناطق اعتادت حمل السلاح والفوضى ورفض
الخضوع للدولة ولـ ماعت، واعتادت الطمع في مصر، وتغلغلت في مؤسسات
الدولة بما فيها الجيش، ووجود رغبة عندها لهدم مصر- لمجرد الهدم- يلزم أن يوضع في
الحسبان جيدا عند تفسير وقوع مصر في فوضى بهذا الحجم المخيف.
ورغم
سوءات هذه الفوضى الشاملة، إلا أن صالح رأى أنه أيضا المصريون استغلوها في مراجعة
أمورهم، فأخرجوا من المر شرابا حلوا، فقال "إنها استثارت نوعا من الوعي
القومي لدى المفكرين الذين عزَّ عليهم عجزهم عن دفع البلاء عن وطنهم قبل وقوعه،
وعزَّ عليهم أنهم لم ينشطوا عند ظهور بوادر الخطر ولم يتلافوها، وصعب عليهم أن
تنتهك حرمات البلاد وتبتذل مقدساتها الدينية والتقليدية تحت أبصارهم وأسماعهم،
سواء بأيدي المهاجرين أم بأيدي المواطنين الموتورين[53]".
ولأن
عقيدة مصر تؤمن بأن "ماعت" قد تختفي ولكنها لا تموت، وبأن الخير ينتصر
على الشر حتما في النهاية، ففي آخر البردية تكلم "إيبو ور" عن الأمل في
أنه سيظهر في مصر حاكم منقذ (الفلاح المقاتل) وصفه بأنه: "من يعمل للبناء،
ولا يفرق بين جرئ وهياب، وصوره "رجلا يستطيع أن يحيل اللهب بردا وسلاما،
ويمكن أن يعتبره قومه راعيا للناس أجمعين، ليس في قلبه ضغينة، وإذا تفرقت رعيته
قضى يومه يجمعها[54]".
وهذه
الصفات هي التي يحلم بها المصريون في حاكمهم كلما حلت بهم الفوضى أو الاحتلالات،
لأنها تعبر عن وظيفة الحاكم المصري والحكومة بأجمعها التي كلفها بها الله منذ ظهور
الدولة في مصر، فالحاكم هو الراعي القوي الصالح، المكلف بحماية وحدانية الدولة
وإقامة "ماعت".
وتصدق
الآثار على كثير مما قالته، ففي الأسرات 7 و8 و9 تبدو مصر كمن غرق في ظلام دامس،
آثارها قليلة، ومستوى الكثير منها ليس بجودة ما قبلها أو بعدها، ولا يوجد ما يدل
على مشاريع كبرى أو تجارة خارجية نشطة؛ ما دل على غياب الحكم المركزي، وانتشار
النزاعات، وغياب ماعت، حتى قال المؤرخ مانيتون في كتابه عن تاريخ
مصر الذي وضعه أيام الاحتلال البطلمي إنه تعاقب على مصر في الأسرة السابعة 70
ملكا في 70 يوما! وإن كان الرقم مبالغا ولكنه تعبير مجازي عن الخلخلة.
❸ أين الجيش؟
ويثور
سؤال.. أين كان الجيش في ذلك الوقت؟
الإجابة
المحتملة أن الجيش وقتها لم يكن جيشا نظاميا بالشكل الذي ظهر عليه عصر لاحق، وإنما يتألف من ضباط وجنود يتدربون كاحتياط تستدعيهم الحكومة من المحافظات
كلما حل بالبلد خطر وعزمت على شن حملات حربية على الحدود لصد غزوات قبايل الشرق
والغرب والجنوب.
وحين
تزايد نفوذ المحافظين وكبار العائلات بالتدريج في وقت كانت الحكومة المركزية تذبل،
امتنع محافظون عن إرسال الشباب للتجنيد والتدريب، واحتفظوا بهم كقوة مسلحة أو
حراسة خاصة بهم في داخل المحافظة، بل وبعضهم فضَّل الأجانب المستوطنين عليهم في
ذلك، فتفكك الجيش بشكل غير مباشر، وفقد قدرته على الالتئام والتوحد السريع عند
اندلاع الخطر.
وإلى
ذلك يشير صالح بقوله: "وكوَّن كل حاكم ]حاكم إقليم أي محافظ[ من أولئك الحكام جيشا محليا وأسطولا محليا بما يناسب إمكانيات
إقليمه ]محافظته["، وضرب مثلا على هذا بمحتويات مقبرة "مسحتي" محافظ
أسيوط التي تضم ماكيتات لفرقة جنود تابعة للمحافظة[55]،
وموجودة بالمتحف المصري.
فرقة جنود في مقبرة مسحتي (المتحف المصري) |
وشكلت
هذه الطريقة في استخدام الجنود بشكل محلي خطرا جديدا على وحدة البلاد؛ لأن وجودهم
تحت إمرة المحافظين مباشرة شجع هؤلاء المحافظين على التنافس المسلح فيما بينهم،
ودفع أقوياءهم إلى الطمع في السيطرة على المحافظات الأخرى[56].
كما
تجلى انهيار الجيش في احتلال الغزاة للوجه البحري مجددا بعد سقوط الدولة المركزية،
وفي ذلك قال نيكولا جريمال: "والأدهى من ذلك أن البدو "الساكنين فوق
الرمال" الذين حاربهم "أوني" في زمن سابق أخذوا يجتاحون الدلتا عند
نهاية الأسرة الثامنة[57]".
وبتتبع الأسباب والنتائج التي رمت مصر مقيدة الأغلال بين نار وأنياب الفوضى "إزفت" نهاية الأسرة 6 كما نقلتها لنا البرديات والآثار.. كم منها ينطبق عليه ما ورد في البنود الـ 17 لدستور خراب مصر؟
وبتتبع الأسباب والنتائج التي رمت مصر مقيدة الأغلال بين نار وأنياب الفوضى "إزفت" نهاية الأسرة 6 كما نقلتها لنا البرديات والآثار.. كم منها ينطبق عليه ما ورد في البنود الـ 17 لدستور خراب مصر؟
واللافت
أنه في تحذيرات "إيبو ور" ردد عبارة "والأجداد قد تنبأوا [58]"،
فهل يقصد وصية الأجداد والأرباب المؤسسين بعدم التفريط في "ماعت"
وبعدم الغفلة عن الحدود وانتشار الأجانب في البلاد؟ وقالوا فيها:
"إن البوابات ]الحدود[ التي فوقك كبوابات حامية.... إنها سوف لا تفتح
للغربيين، إنها سوف لا تفتح للشرقيين، إنها سوف لا تفتح للجنوبيين، إنها سوف لا
تفتح للشماليين، إنها سوف لا تفتح لهؤلاء الذين في وسط الأرض، إنها سوف تفتح لحورس[59]".
فاستحقت
الأجيال التي لم تلتزم بها عقاب الإله الذي حذر منه بتاح حتب في الأسرة 5:
(كافة ما سبق من المقالة
هو منقول من كتاب "نكبة توطين الهكسوس"، والمراجع التي يستند إليها، ومن
يريد الاستزادة عن ماهي "ماعت"، وأحداث ما قبل كل احتلال من الاحتلال
الـ 22 التي سقطت فيها مصر، وأساليب كل هجرة في التسلل لمصر قبل الاحتلالات وحتى
سنة 1952 فليعود إليه، وتحميله من هنا أو
من هنا )
ولمعرفة أمثلة وتجارب مريرة أخرى لمخالفة وصية حور
وكتالوج مصر و"ماعت" انظر أسباب وأحداث سقوط مصر بعد الأسرة 13 (الاحتلال الهكسوسي
الشهير)، وأسباب وأحداث سقوط مصر بعد عصر الرعامسة (الاحتلال الاستيطاني من أسرى
الحرب والقبائل القادمة من وراء الحدود ثم الكوشي إلخ) أنظر لمقالة:
- كيف سقطت مصر من عليائها قديما ومن هم هكسوس القرن 21؟
- ليه توطين الأجانب نكبة وخطيئة؟
- كيف سقطت مصر من عليائها قديما ومن هم هكسوس القرن 21؟
____________________
بقلم: إفتكار السيد (نفرتاري أحمس)
بقلم: إفتكار السيد (نفرتاري أحمس)
([12])- لفظة إزفت وشرحها: انظر: Alan Gardiner, Egyptian
grammar, 3 edition, Griffith institute Ashmolean museum, Oxford, page 555
وهي
عدو المصريين الأول لأنها عكس النظام والخير "ماعت"، وكلمة زفت التي
ننطقها كمصريين حاليا موروثة منها.
([13])- كلمة "تدويل مصر" هدف
حقيقي لأعادي مصر في القديم والحديث، ووردت على لسانهم صريحة، ومنهم وزير
المستعمرات البريطاني ألفرد ملنر وقت ثورة 1919 حين دعا لتحويل مصر إلى مصب وموطن
للجاليات الأجنبية، وتصطبغ كل مدينة فيها بصبغة أجنبية ويكون للأجانب السيطرة،
وسنتابع هذا عند الحديث عن توطين الهجرات في مصر خصوصا من الاستيطان الإغريقي،
مرورا بالاحتلال الإنجليزي، وصولا لقوانين التجنيس والتوطين الحالية.
([14])- لمراجعة هذا
انظر كأمثلة: ماعت فلسفة العدالة في مصر القديمة، أنَّا مانسيني، مرجع سابق، ماعت
مصر الفرعونية وفكرة العدالة الاجتماعية، يان آسمان، فجر الضمير، جيمس هنري
بريستيد، ترجمة سليم حسن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2011، تاريخ الشرق
الأدنى- مصر والعراق، عبد العزيز صالح، مرجع سابق، مصر الفرعونية، أحمد فخري، مرجع
سابق، الوعي السياسي عند قدماء المصريين، فايز أنور عبد المطلب، الهيئة العامة
للكتاب، الفكر الفلسفي في مصر القديمة، د. مصطفى النشار، الدار المصرية السعودية
للنشر والتوزيع، ط1، الحكم والأمثال والنصائح عند المصريين القدماء، محرم كمال، الهيئة العامة للكتاب، ط2، 1998، أحجار على رقعة الشطرنج وليم جاي كار، ترجمة سعيد جزائرلي،
دار النفائس، الماسونية والماسون في مصر 1798- 1964، وائل إبراهيم الدسوقي، دار
الكتب والوثائق القومية، الشيطان أمير العالم، وليم جاي كار، ترجمة عماد إبراهيم،
الأهلية للنشر والتوزيع، بروتوكولات حكماء صهيون، فكتور ماسدون، الحرية للنشر
والتوزيع، القاهرة.
([17])- خلال فوضى يناير 2011 ظهرت دعوات
لانتخاب المحافظين بدلا من التعيين وتوسيع صلاحياتهم بحجة الديمقراطية، فيما كانت
أحزاب أسسها رجال أعمال خصيصا للانتخابات وتنظيم الإخوان الدولي وعائلات معينة
تتحفز لاقتناص منصب المحافظ، ولو حدثت فعلا انتخابات للمحافظين لصارت محافظات مصر
خلال 10 سنوات مقسمة إقطاع للحزب الفلاني، وإقطاع لرجل الأعمال العلاني، وأخرى
لعائلة التلاني، وتلك للإخوان، إلخ، وتأخذ المحافظات صبغات دينية وحزبية متصارعة، وتنفلت
عرى مصر تماما.
([22])- الهجرات الأمورية صارت من المكونات
الأساسية لسكان الشام في ذلك الزمان، ولم تفقد طموحها في غزو مصر رغم الخساير التي
تكبدتها على يد الجيش المصري، فهم لا ينسون هدفهم، ولكنهم في نفس الوقت لا يصلون
إليه إلا إذا غفلت مصر عن خطرهم وآمنت لهم وهم يتسللون إليها على دفعات في ستار
تاجر أو عامل أو لاجئ إلخ.
([34])- الملكية هنا
المقصود بها الدولة وأركانها، وليس المقصود نوع الحكم ملكي وجمهوري كما في العصر
الحديث، وسر الأرض مقصود به أسرار مصر وأسرار الحكم والوثائق الهامة.
- تكرر هذا الأمر عدة مرات في عصور لاحقة خلال
الاحتلالات، كما تكرر في أحداث يناير 2011 حين تجرأ البعض على اقتحام مؤسسات
الدولة مثل مقرات أمن الدولة والمحاكم وأقسام الشرطة بحجة السخط على الحكومة، وإن
كان اختيار تلك الأماكن والجرأة عليها غير بعيد عنه تخطيط أجنبي تورط فيه بعض
المتظاهرين الغافلين، مثلما يبدو أن حدث في الأسرة 6.
0 التعليقات:
إرسال تعليق