لم يقصد حاكم مصري خالص
المصرية إطلاقا أن يسلم مصر للأجانب، أو يرفع راية غير راية "مصر
للمصريين"، أو أن يكون سببا في سقوط مصر في يد أعاديها، ولكن بعضهم تسبب في
هذا عن غفلة وإهمال، والغفلة نتيجتها أشنع من الخيانة.
▼▼▼ طاعون قبائل شعوب البحر "نا خاسوت با يَّم"
إلا أن المتفق عليه أن هذا الاحتلال الاستيطاني كان بداية لإلقاء مصر في نفق الاحتلالات الطويل فيما بعد (الكوشي، الآشوري، الفارسي، الإغريقي، الروماني، العربي، العبيدي (الفاطمي)، الأيوبي، المملوكي، التركي العثمانلي، الفرنسي، العلوي، الإنجليزي) ولم تتحرر منه مصر- رغم كثرة ثوراتها- ويعود لحكمها المصريون إلا في 1952... وهكذا يصدق القول بأن الغفلة عن دروس التاريخ ووصايا "ماعت" نتائجها أبشع وأشنع من الخيانة المقصودة.
أعلى صورة رمزية للهجرات، وأسفل صورة لدخول الهكسوس القدامى لمصر |
وعلى عكس ما يردد البعض بأن
"مصر ما ليهاش كتالوج"، فالحقية أن مصر كدولة أصيلة، بل هي أقدم من صنعت
الدولة الحقيقية، فهي لها "كتالوج"، يحدد وصفات عمارها، ويحذرها من
وصفات سقوطها، وهي مأخوذة من خلاصة ما سماه الأجداد بتعاليم "ماعت".. دستور أو شريعة كيمة (الدولة المصرية) أفرادا وحكومة.
ويستطيع أن يعرف هذه الوصفات جيدا كل من يتتبع الخطوط العريضة لتاريخ
مصر من أقدم أزمنته وحتى اليوم، وخصوصا إذا ركَّز في الأحداث التي سبقت فترات
الصعود، وفترات السقوط في تاريخ مصر، ليستخرج من بين موجاتها أسباب هذا وذاك.
وأما وصفة عمار مصر
"رباعي العمار" فهي:
1- جمع شمل البلاد تحت حكم مركزي قوي مهاب رادع
2- منع أي مراكز قوى
تناطح الدولة
3- تطهير البلاد وحدودها
من المتسللين والمستوطنين الأجانب وفقا لـ "وصية حور"
4-السير على الأصول
المصرية "ماعت" في كل نواحي الحياة والحكم
1- اللامركزية في الحكم وضعف قبضة الدولة
2- ظهور مراكز قوى سياسية واقتصادية وفنية ودينية
تناطح الدولة
3- إهمال الحدود وفتح أبواب مصر لهجرات أجنبية
وتوطينها
4- السير على دساتير ووصفات أجنبية في الحكم والحياة مخالفة
لـ "ماعت"
(اقرأ للمزيد)
وسنتتبع في هذه المقالة الأحداث التي سبقت "سقوط مصر" في الاحتلالات، بشكل مختصر، في
رصدنا لدور توطين الأجانب في هذا، ولمعنى كلمة "الهكسوس" في تاريخ ووجدان المصريين.
ففي أيام الزعيم سنوسرت
الثالث في الأسرة 12، كانت مصر في أوج قوتها الحربية وفي التنمية، وباتت كالشمس المتلألأة
بين جيرانها، توقظ بداخل الطامعين فيها مشاعر الغزو والتكويش على خيراتها.
ولأن مصر وقتها حصنت الحدود،
وباتت قادرة على ردع من يرفع في وجهها السلاح، فكان إلقاء هؤلاء الطامعين للسلاح-
مؤقتا- والتسلل والدخول لمصر في ثوب التجارة وطلب العمل في المهن الشاقة واللسان
الحلو لقبول لجوئهم لمصر هربا الحروب الداخلية والجفاف والهجرات الأمورية التي
تمزق الشام هو سلاح الاختراق.
ولأن مصر وقتها عامرة
بالمشاريع القومية الكبيرة، وبالإنتاج الوفير، وبحركة التجارة مع أفريقيا والشام،
فقد استوعبت هؤلاء، ووجدوا من أشفق على أحوالهم، ومن تغريه بضايعهم وصناعاتهم
الغريبة الطريفة القادمين بها؛ لأنهم كانوا تجارا شطارا، رغم عدم حاجة المصريين لهم
ولبضايعهم أساسا، لكن كثرة الغنى أغرت بعض المصريين بحب تجريب كل ما هو غريب.
وأعطى المسئولون فرص عمل لمن
طلبها، خاصة في الوظائف الشاقة والصغيرة، ولم ينتبهوا إلى أنهم خلال سنوات
سيتكتلون ويحصلون على وظائف أكبر وأكبر، وينشرون الفتن والأزمات مجددا، حتى يحكمها
ذلك الغريب الذي جاء متوسلا الرزق والأمان.
واحتفظت نصوص من ذلك العصر
بأسماء كنعانية كثيرة عمل أصحابها في مناجم ومحاجر سيناء، وأتباعا وإماء في
المعابد والبيوت المصرية[1]،
وبعض الأيدي العاملة الأجنبية جاءت ومعها تقنيات جديدة، وبدأت عملية تسلل بطيئة
مهدت الطريق أمام السيطرة الآسيوية إذا حانت الفرصة، بتعبير نيكولا جريمال[2].
كما ارتدى التسلل ثوب
التجارة، وتظهر لنا مقبرة "خنوم حتب الثاني" في بني حسن بالمنيا نقوشا
لجماعة أجنبية يتزعمهم شخص ذكرته باسم "إبشيا" قادمة للمنيا، وفيها رجال
ونساء وأطفال، تحمل هدايا للمحافظ أو بضايع للتجارة، غير أن وجود نساء وأطفال يعني
أنهم جاءوا بنية الاستيطان.
وكتب الفنان المصري فوق صور هؤلاء كلمة "حكا
خاسوت"، أي زعماء الأجانب أو الجماعات الأجنبية (حكا يعني زعيم أو حاكم،
وخاسوت يعني أجانب)، وتحرفت الكلمة في عصور لاحقة إلى "هكسوس".
رسم طبق الأصل لنقش في مقبرة خنوم حتب2 ببني حسن تصور الهكسوس قادمين تجارا أو لاجئين، ويقودهم في الصف الثاني موظف مصري ليقدم للمحافظ |
▼▼▼ الغزو
وتحت عنوان "الغزو" يتتبع جريمال جذور الاحتلال
الهكسوسي فيحكي أن تدفق العمالة الآسيوية هو بداية حركة هجرة متصلة وسلمية، ولكنها
ثابتة ودؤوبة، أدت إلى استقرار بعض الشعوب على الحدود الشمالية الشرقية لمصر، جاءت
بعد أن طردتها من مواطنها هجرات جديدة هاجمت الشام، حتى إذا آن الأوان نزع المهاجرون
إلى الاتحاد ليحتلوا المناطق التي تقع تحت إيديهم، وعادت الآليات التي كانت وراء سقوط
الدولة القديمة إلى الظهور، وتتمثل في إضعاف الدولة وما ترتب عليه من انفراط عقد وحدة
البلاد. وأخذت مصر الحقيقية تتحصن في جنوب البلاد [3]
وتشير عبارة أن "مصر
الحقيقية" أخذت "تتحصن في جنوب البلاد"، إلى أن المهاجرين مارسوا انتهاكات وفظايع ضد المصريين، وطردوا بعضهم من
أراضيهم بالوجه البحري، فذهب بعضهم إلى الوجه القبلي الذي لم يصله الاحتلال
الاستيطاني.
وصف آخر يورده تريفور برايس
للهكسوس بأنهم "هجرات شعوب كنعان"، وأنهم خلال الدولة الوسطى
"استقرت بشكل نهائي في دلتا مصر وبأعداد كبيرة لا حصر لها، وبالفعل اعتبر بعض
الباحثين أن أولئك المهاجرين كانوا سببا في انهيار السيطرة السياسية التي وصلت
بالحكم إلى انهياره، وربما كانوا بالفعل عنصرا هاما من العناصر التي أدت إلى
انهيار الإمبراطورية المصرية بعد حكم أسر المملكة المتوسطة"[4].
واستولى الهكسوس على الحكم في
شمال شرق مصر بالتدريج وعلى مراحل، فأولا وطدوا أقدامهم في فرعشة وتل الصحابة عند
مخرج وادي الطميلات، وفي بوباستس وإنشاص وفي تل اليهودية على مسافة 20 كم شمال
مدينة هليوبوليس (أون بالمصري القديم وعين شمس حاليا)[5].
واستغرق هذا الزحف حوالي 50
سنة- أي ببطء شديد لم يلحظه المصريون- لينتهي سنة 1675 ق. م في عهد الملك رقم 33
أو 34 في قائمة ملوك الأسرة 13[6].
وتضم بردية بروكلين (Pap.Brooklyn
35.1446) التي تتناول أول عهد الملك
سوبك حتب الثالث في الأسرة 13- وهي خاصة بمسائل الخدم في الوجه القبلي، قايمة لـ
45 آسيويا من الرجال والنساء والولدان ألحقوا بخدمة موظف واحد في الوجه القبلي.
ويعلق ويليام هايس على
البردية بعد أن درسها وتأملها: "وإذا ما تصورنا أن مثل هذا العدد سيوجد عند
الأغنياء من المصريين في ذلك الوقت في مصر العليا، فعند ذلك سيصبح عدد الآسيويين
كبيرا أكثر مما يتصوره الإنسان، وسواء لعبت هذه المجموعات من العبيد أم لم يلعبوا
في التعجيل أو تمهيد الطريق لاحتلال الهكسوسن فهذا أمر صعب قبوله، إلا أنه كان للتزاوج
وما شاكل هذا أثره في إضعاف مقاومة المصريين للهكسوس الذين سيندفعون بعد فترة إلى
البلاد"[7].
وهايس بهذا يشير فيما يبدو
لصنع الهكسوس روابط عاطفية وعلاقات مصلحة مع بعض المصريين، فالبتأكيد غرس هؤلاء في
منازل وأماكن عمل الأغنياء وأصحاب النفوذ، وبهذه الكثرة، وفي مجتمع يقدم حسن النية
مع الغريب على الشك، بالتأكيد لن يمر مرور الكرام.
وواضح أن الخطر حاوط المصريين
من كل اتجاه، فتخلخلت الحدود الغربية والجنوبية أيضا على وقع دبيب الضعف في مؤسسات
الدولة المركزية، حتى لجأ الناس إلى ما أسماه علماء الآثار بـ"نصوص
اللعنة".
وهي نصوص
لأدعية يطلب الناس من رجال الدين كتابتها على تماثيل صغيرة من الطين، تمثل الشيوخ
الليبيين ]ليبيين
مقصود بها قبائل تأتي من وراء الحدود الغربية وليس بالضرورة الليبيين بالمعنى
الحالي[ وحكام كوش ]في
السودان الحالية وما ورائها [ وحكام مدن الشام، ذكروا منها بيبلوس (الجبيل)، أورشليم (القدس)،
عسقلون (عسقلان)، يافا، كوشو، العناكيم، حبرون (الخليل)، عشتاروت، أكر (عكا)،
شاروهين (غزة)، وغيرها، على أمل أن تصب الأرباب لعناتها عليهم، ثم يكسرونها أو
يلقونها في النار، وهو ما يوضح أنهم بدأوا يتجرعون مرارة استيطان هجرات تابعة
لهؤلاء[8].
كما يكشف عن ضعف مؤسسات
الدولة التي لم يعد الأهالي يرون فيها القدرة على ردع تجرؤ الأجانب عليهم في
البلاد[9] فلجأوا لأساليب بدائية لتفريغ ما في صدورهم من غيظ أو فزع وخوف من المجهول.
ونصوص اللعنة باقي منها حاليا
أن الناس من باب المرح أو الدعابة يقصون الورق على شكل عروسة أو يشكلون عروسة من
عجين أو طين، ويخرمونها بشوكة أو عود وهم يصبون اللعنات على العزول والخصوم مثل:
"رقيتك واسترقيتك من عين فلانة وشوكة في عين فلان" الذي تمثله العروسة،
وعقب ذلك يحرق الشخص الورقة أو يكسر عروسة الطين على أمل كسر الشر.
ولأن أعداء مصر دايما
يتحالفون ضدها في وقت ضعفها، فقد تحالف الهكسوس القادمون من الشرق مع الكوشيين السود
وبلاد الزنج المهاجمين لها من الجنوب، وانحصر المصريون بين فكي الكماشة، وهذا
بخلاف تجرؤ القبايل الهاجمة عليهم من الغرب، وعشعشة الأجانب بالداخل.
ووصف المؤرخ مانيتون (وضع
كتابا عن تاريخ مصر في زمن الاحتلال البطلمي) غزو الهكسوس لمصر خلال كلامه عن ملك سماه
توتيمايوس: "وفي عهده كيف لا أدرى عصف بنا غضب الرب، ووفد غزاة من الشرق
مجهولو الأصل إلى أرضنا دون توقع، وكلهم أمل في النصر، فهاجموها عنوة واستولوا
عليها بسهولة، وتغلبوا على حكامها، وحرقوا مدننا في وحشية، وسووا معابد الأرباب
بالأرض، وعاملوا المواطنين بخشونة وفظاظة، وذبحوا بعضهم، واسترقوا نساء بعض آخر
وأطفالهم[10]".
لكن واضح من تسلسل الأحداث أن
الغزو لم يأتِ فجأة كما قال مانيتون الذي كتب تاريخه بعد 1600 سنة من الأحداث،
فالغزو العسكري هو آخر خطوة بعد أن تمكنت جماعاتهم المتسللة في الداخل، وغزل
علاقات قوية مع عائلات مصرية، وتحصنوا عبرها بالنفوذ، وعلموا الأسرار، فلما تأكدوا
من ضعف مؤسسات الدولة، وإهمالها لـ "ماعت"، بذروا الشقاق والنزاع في مصر، فطابت لهم الثمرة، ولم
تعد تحتاج إلا طوبة ترمى عليها لتسقطها، فاستدعوا بني جلدتهم المسلحين من الشام
ليضربوا الضربة الأخيرة.
وبهذا فكلمة "هكسوس"
عند المصريين لا تعني شعبا بعينه، ولكن تعني القبايل الرعوية الأجنبية، وهي تسمية
تشبه كما نقول الآن "الفرنجة" على الغرب، ولا نقصد بها بريطانيا فقط أو
فرنسا فقط، بل كل القادمين من أوروبا، أو نطلق كلمة العرب على كل دول الخليج وليس
دولة بعينها.
وفي رأي الدكتور عبد العزيز صالح[11] فالهكسوس خليط من هجرات آرية غزت الشام مع جماعات أمورية من سكان سهول الشام،
وتحالفوا سويا، واتجهوا للجنوب ناحية الحدود المصرية، وتسربوا منها إلى الداخل
ببطء، وكوَّن المهاجرون نفوذا لهم بالداخل، فتشجعوا على غزوها بالضربة القاضية
بمساعدة المهاجرين القدامى الذين عرفوا أسرار البلاد ووثقوا علاقتهم بأهلها.
ويبدو أنهم شنوا حربا نفسية
على المصريين أيضا بنشر قصص الأهوال التي تقوم بها الهجرات الجديدة في الشام
بالأسلحة الجديدة التي لا يملك المصريون مثلها، وذلك لتخويف الناس، وكسر روحهم
المعنوية، خاصة وهم يعلمون ألا جيش مركزي أو حكومة قوية تقوي ظهرهم[12]،
وهو ما يشبه الحرب النفسية التي تُروى أو تُصور عن جرائم الإرهابيين والدواعش في
العصر الحالي.
ومن أنواع الأسلحة الجديدة
التي فاجئ الغزاة بها المصريين العربات الحربية، والأقواس المركبة الكبيرة
المصنوعة من (طبقات) الخشب ومن القرون ومن أوتار شديدة، وكانت ترمي بشدة وإلى مدى
أبعد من مرمى الأقواس المصرية القديمة[13].
ولما استولى الهكسوس على
سيناء ومدن أخرى شرقي مصر، تجرأوا على منف العظيمة، ونهبوا كنوزها، وفضوا أسرارها.
وخوفا من هجمات المصريين
أنشأوا عاصمة لهم محصنة تحصينا شديدا في مدينة "حت وعرة" (في محافظة
الشرقية حاليا)، سماها اليونان بعد ذلك أفاريس أو أورايس، لتكون قريبة من مواطنهم
في الشام، فيسهل وصول مدد إليهم إذا ما هاجمهم المصريون لطردهم ذات يوم[14].
أما نفوذ المصريين في وقت
احتلال الهكسوس فتراجع نحو الوجه القبلي من بعد المنيا، مع بقاء مصريين أيضا في
غرب الدلتا تمسكوا بأراضيهم وكونوا ما عُرف بالأسرة 14، وكوَّن الهكسوس الأسرتين
15 و16، فيما كوَّن المصريون في الوجه القبلي الأسرة 17، ويدفعون الجزية للهكسوس في
الغالب بحسب د. سليم حسن[15]،
وتموج صدورهم بالغضب والاستعداد لطردهم، وإن استغرق هذا أكثر من 100 سنة، لأن أخطر
وأبشع أنواع الاحتلال هي الاحتلال الاستيطاني، وتطهير البلاد منه يأخذ سنوات
وطوفان من الدم يستغرق أجيالا.
وقصة كفاح المصريين لتحرير
بلادهم من خطيئة ترحيبهم القديم بالهكسوس حتى تم هذا في عصر أحمس معلومة ومشهورة.
موقع تل الضبعة وفيه أطلال من الاحتلال الهكسوسي بعد أن طردتهم مصر وتطهرت منهم |
رأس الزعيم أحمس قاهر الهكسوس (متحف المتروبوليتان) |
▼▼▼ طاعون قبائل شعوب البحر "نا خاسوت با يَّم"
رغم كل ما عانته مصر من
الاحتلال الهكسوسي الاستيطاني ثم العسكري، وما عانته لتتحرر منهم، إلا أن كثير من
أبنائها غفلوا عن دورس هذه المحنة، فكرروها في أوقات لاحقة، منها ما حصل في الأسرة
20.
فحينها هدد مصر خطر هجرات أخرى، اشتهرت في
التاريخ باسم "قبائل شعوب البحر"، بعضها هبَّ كالعواصف والأعاصير من
أقصى الشرق ليجرف أمامه دولة الحيثيين وجزر البحر الإغريقية ومدن الشام.. حتى وصلت
إلى باب مصر.
وورد هذا الاسم على مسلة أتريب من عصر رمسيس الثاني في
الأسرة 19 وعلى جدران الكرنك في جدارية معروفة في الآثار باسم "نقش الكرنك
العظيم"، في عصر ابنه مرنبتاح، حيث
قاد الزعيمان حملات لصد هذه الجماعات عن حدود مصر، وسجلوا الاسم باللغة المصرية "نا خاسوت إن با يَّم، و"نا"
أداة تعريف للجمع، و"خاسوت" أي الجماعات الأجنبية، وهو نفس الاسم الذي
وصفوا به هكسوس الدولة الوسطى، و"إن" يعني تبع، و"با" أداة
تعريف للمفرد المذكر، و"يَّم" أي البحر، وهي نفس كلمة اليَّم التي ظهرت
فيما بعد في اللغة العربية بمعنى البحر والبحيرة.
وأخذ رمسيس الثالث نصيبا
كبيرا من شجاعة وهمة رمسيس الثاني الذى تسمى باسمه تيمنا به، فوقع على كتفيه عبء
حماية مصر من مصير دولة الحيثيين التي سقطت ركاما تحت أقدام هجرات شعوب البحر، وهي
هجرات شرسة عاتية تشبه في عصور تالية هجمات التتار التي لم تبقِ ولم تذر في روسيا
وفارس والعراق والشام، ولم تنكسر إلا على باب مصر.
فخاضت مصر في عهده 3 حروب
ضخمة لصد هذه الهجرات، الأولى عند الحدود الشرقية لمنعهم من اجتياح مصر من ناحية كنعان
وهزمتهم مصر، فانتقلوا عبر البحر الذي يجيدون القتال على أمواجه لمهاجمة مصر عند سواحل
الوجه البحري، فهزمتهم مصر، فتحركوا إلى الغرب ونزلوا على السواحل الليبية
وتحالفوا مع قبائل قديمة سبقتهم بالهجرة إلى هناك، واجتاحوا الحدود المصرية من
الغرب، فهزمتهم مصر.
ووصفت النصوص المصرية تحركات
هؤلاء المهاجرين وخيبة مسعاهم وصفًا شيقا على لسان رمسيس الثالث، فقال:
"تآمرت شعوب أجنبية في جزرها، وسريعا زالت بلاد وشردت الحرب أهلها، ولم تستطع
بلد أن تثبت أمام أسلحتهم، ابتداء من خاتي ]الحيثيين[ وقدي
وقرقميش وأرزاوا إلى إرس "ألاسيا" في آن واحد ]أي من آسيا الصغرى وشمال سوريا وشواطئ الفرات إلى قبرص في عرض البحر [،
واجتمع عسكرهم في بقعة واحدة (بأرض) آمور ]الشام[،
فشردوا أهلها، وأصبحت أرضها كأنها لم تكن، ثم تقدموا نحو مصر، ولكن النار كانت على
استعداد للقائهم، وتألف حلفهم ]تحالفهم[ من
برستي "البلستي"[16] والثكر والشكرش والدانيين "أو الدانونيين"، والوشاوش، واتحدوا جميعًا
ووضعوا أيديهم على البلاد في مدار الأرض كلها، واستبشروا وملأتهم الثقة بأنفسهم
وقالوا: سوف تنجح مشاريعنا[17]".
"ولكن
عقل الإله كان واعيًا وعلى استعداد لأن يقتنصهم كالطيور...، وهكذا نظمت حدودي في
"جاهي" ]بلدة جنوب
الشام[، وأعددت أمامهم الأمراء وقادة
الحاميات والماريانو، وأمرت بتحصين مصبات الأنهار لتكون كالسد الكبير، وزودتها
بسفن وزوارق ناقلات للجنود امتلأت جميعها من مقدماتها إلى مؤخراتها بمحاربين مهرة
مسلحين. وتألفت قوات المشاة من خيرة شباب مصر، وكانوا أشبه بالأسود الزائرة على
قمم الجبال. وتألفت فرق الفرسان من عدائين مهرة وقادة قادرين، ومن كل فارس عربة
متين، وهزت الخيول أعطافها واستعدت لسحق الشعوب الأجنبية تحت حوافرها، وكنت "مونتو" المقتدر، أقف على
رأسهم، ليشهدوا بأنفسهم ما تفعله يداي.. أما من بلغ حدودي، فلم تبق منهم باقية،
وانمحت قلوبهم وأرواحهم إلى الأبد[18]".
وبعد
هزيمتهم في كنعان تحدثت النصوص عن هزيمتهم في معركة البحر المتوسط عند السواحل
المصرية، والمعروفة تاريخيا باسم "معركة الدلتا البحرية"، أول معركة
بحرية في تاريخ مصر منذ آلاف السنين[19]،
إن لم تكن الأولى في تاريخها، وحكت النصوص: "وأما من أتوا "بجموعهم معا عن
طريق البحر، فقد واجهتهم نار حامية على مصبات الأنهار، وأحاط بهم على البر سد من
الحراب، واستدرجوا إلى الداخل، وحوصروا، وألقوا على وجوههم على الشاطئ، ثم قتلوا
ومزقوا إربًا من القدم حتى الرأس، وغرقت سفنهم وأمتعتهم في البحر[20]".
معركة الدلتا البحرية على معبد هابو |
فأين ذهبت وتفرقت فلول تلك
القبايل والجماعات بعد هزيمتها شرقا وشمالا، وانهيارها عند أقدام مصر بعد أن فعلت
الأفاعيل ببلدان أخرى قبل أن تصل إلى مصر؟
تشتت في جزر البحر وسواحله،
واحتفظت بعض هذه الجزر والسواحل بأسمائها، وهكذا يتجه رأي إلى الربط بين الشرادنة
وبين السرادنة "سردينيا"، وبين الشكلش "شكرش" والصقليين،
والربط بين الثكر وبين الصقليين أيضًا أو الطرواديين[21]،
كما سبق واستقرت "بلستي" في كنعان وأعطوها اسم فلسطين، ونزلت قبائل أخرى
إلى السواحل الليبية، وهي التي تهمنا هنا.
فلم يحمدوا لرمسيس الثالث أنه
سمح لهم بالمعيشة قرب مصر بعدما أعلنوا السلم والطاعة، وعادوا للغدر، فظهرت بينهم
جماعات جديدة ذكرتها المصادر المصرية بأسماء قريبة من الأسباط والقايقاش والشايتيت
والهاسا والباقان، واستجاب لهم عدد من بني جلدتهم الذين سبق وأن استوطنوا غرب الوجه
البحري، وعاونوهم، فاشتدت القوات المصرية عليهم، وأحبطت مشاريعهم، وكسرت شرتهم[22].
وبذلك انتهت محاولاتهم لدخول
مصر عن طريق العنف، وبدأوا يتسللون إليها تسللًا سلميًا بطيئًا، فتسامح رمسيس
الثالث معهم باسم مصر، كما تسامح مع أسراهم الذين بدأهم بالشدة ثم عاد عليهم
بالعفو، واكتفى بإحكام الرقابة عليهم.
فقال حين غضبته عليهم:
"اعتقلت قادتهم في حصون تحمل اسمي، ووليت عليهم ضباطا ورؤساء قبائل،
واعتبرتهم عبيدا مدموغين باسمي، وعومل نساؤهم وأطفالهم نفس المعاملة، ووهبت
قطعانهم إلى دار آمون"، ثم قال بعد أن خف
غضبه: "وضعتهم في الحصون، ودمغتهم باسمي، وكانت جماعاتهم الحربية تقدر بمئات
الألوف، وخصصت لهم مخصصات من الكساء والزاد، تصرف من الخزانة وشون الغلال كل عام[23]".
وأضافت بردية من أواخر عصر
رمسيس الثالث أن الشرادنة استقروا في مدنهم التي خصصها لهم، وأقام بعضهم في حصونه،
وآخرون وسط المزارع التي سمح لهم بها.. فتفشت المستوطنات الأجنبية.
أما الطامة الكبرى فإدخال
بعضهم في سلك التجنيد وزرعهم بداخل الوجه القبلي بعد أن كان بعيدا عن يد الهجرات
لحد كبير، فأضافت بردية أخرى كتبها صاحبها بعد عهده أن رمسيس الثالث أنشأ للمجندين
منهم محلَّة في الوجه القبلي ليعيشوا فيها.
قبائل شعوب البحر مهزومين في نقوش معبد هابو |
▼▼▼ "غرور القوة"
وبتعبير عبد العزيز صالح فإنه
على الرغم من أن هذا التساهل النسبي يعتبر مكرمة للخلق المصري في جملته، إلا أنه
جرَّ على مصر بعد ذلك شرورا كثيرة كانت في غنى عنها لو أنها استأصلت شأفة أعدائها
من جذورها[24].
والأدق فإن هذا لم يكن
بـ"مكرمة للخلق المصري"، بل غفلة ترفضها "ماعت"، وتكرار لوصفة "سقوط مصر"، وضعف للذاكرة، وتهاون
يتناقض مع ما عاناه المصريون طوال التاريخ من توطين الأجانب، وخاصة بأعداد كبيرة
مجتمعة أو دخلت على دفعات صغيرة غير محسوسة، وفتح مؤسسات الدولة لهم.
وهنا نبَّه صالح إلى أن الأصح
كان الاستمرار في قتال هؤلاء الدخلاء حتى يجلوا عن مصر كلها، ويعودوا من حيث أتوا،
ولا يتسامح معهم رمسيس الثالث أو ينخدع بعد أن رموا السلاح وتوسلوا له أن يعيشوا
خدما في مصر، واستجابوا لرغبته في الحديث باللغة المصرية، وتوهم في سكرة انتصاراته
الثلاثية العظيمة أن قوة الجيش وقتها وإحكام الرقابة عليهم والإجراءات التي اتخذها
لتمصيرهم كافية لتغييرهم أو لردعهم عن أي غدر جديد.
وبحسب نيكولا جريمال، فقد
تكاثروا وأنجبوا الذرية التي جددت الآليات التي مهدتت للغزوات التي شهدتها مصر في
أواخر الدولة الوسطى (الهكسوس)، وتحالف المستوطنون القدماء مع المستوطنين الجدد من
أسرى الحرب، وتركزوا في مناطق محددة "مستوطنات"، ثم استولوا على السلطة
عندما غرقت الدولة في بحار الفوضى[25].
وتحركت الرمال تحت أقدام
المصريين لما سمح رمسيس الثالث لهم ولآخرين كالآسيويين والكوشيين بالخدمة تحت
قيادة الجيش المصري، ظنا منه أنهم سيكونون عونا له في صد هجمات المناطق التي أتوا
منها لخبرتهم بها.
ولم يكتفِ بهؤلاء القادمين من
الغرب، بل فتح أبواب مصر من الشرق أمام اللاجئين الفارين من أمام الهجرات التي
دمرت بلادهم، فتتحدث نقوش جدران معبد هابو بمدينة واسط (طيبة[26] عن كيف أن هؤلاء أتوا للاحتماء بمصر، يتوددون لأهلها بالكلمات المعسولة لقبولهم،
فيقول:
"إن رئيس آمور ]الشام [أصبح رمادا وبذرته لا وجود لها، وكل قومه أخذوا أسرى
وشُتتوا وأخضعوا، وكل من بقي على قيد الحياة في بلاده كان يأتي بالثناء ليرى شمس
مصر العظيمة تطلع عليه، ويقولون: "الرفعة لـ رع، إن أرضنا قد دمرت، ولكننا نحن في أرض الحياة (مصر)
حيث بُدد الظلام[27]".
انخدع رمسيس بابتهالهم لـ رع، وهو يتباهى بأن أرض مصر ظلت هي الوحيدة الباقية
صامدة ومستقرة وكاملة بعد أن مزقت هجرات شعوب البحر البلدان الأخرى، وتباهى بأن من
كانوا أعداء مصر بالأمس باتوا يمدحونها ويمدحون دينها، ويعترفون بفضلها بعد أن
وجدوا فيها الأمان.
ها قد أسكر النصر رمسيس
والحكومة جميعها، وخدرت أعصابه نفس الأسطوانة الملعونة من المدائح وأغاني المهاجرين
لمصر والمصريين، ومظهر الخضوع، وظن أنهم استكانوا لما رأوه من شدته من ناحية، وما
أتاحه لهم من فرص من ناحية، ونسي أن مصر قبل عهده وعهد والده "ست نخت"
مباشرة تحولت إلى قِدر يغلي بالماء الفاسد، يسلق ويهري عظام المصريين، لما تمكنت
عائلات أجنبية مثل عيلة "إرسو" من رقبتها وحقَّروا معابدها، وكانوا قبل
التمكين أيضا يمدحون مصر ودينها وحكامها.
▼▼▼ الهكسوس في الحكم من جديد
ورفع رمسيس الثالث بعض
الأجانب إلى مناصب القيادة، وكان يعلن لهم قراراته إلى جانب غيرهم من القادة وكبار
الموظفين المصريين، واعتقد أن الأمان الذي يوفره لهم كفيل ببث الإخلاص في قلوبهم.
وزاد نصيب القصور الحكام
وكبار رجال الدولة من الزيجات الأجنبيات، وتقبلت أعدادًا أكثر من الجواري، سواء
بفعل ظروف الحرب وكثرة سباياها، أو حبًّا في ملاحة الشماليات ودفء الجنوبيات-
بتعبير عبد العزيز صالح- وتقبلت القصور إلى جانب الجواري أعدادًا من الحشم الأجانب
عملوا خدما وسقاه ووصفاء[28].
وزاد رمسيس الثالث فعين بعض
أولئك الأجانب في وظائف البلاط والقضاء، أما المعابد فنصيبها من الأرقاء والأسرى
الأجانب والمتمصرين أضخم، بحيث ذكرت النصوص أنه خصص 2607 من أسراه لأملاك آمون، و2093 لأملاك رع، و205 لأملاك بتاح، لكي يعملوا بأسماء هذه المعابد في المزارع والمحاجر
والمناجم، بل وفي شئون العبادة نفسها.
نفس المقدمات التي سبقت
الانهيار الكبير في نهاية الأسرة 6 بالدولة القديمة والأسرة 13 بالدولة الوسطى والأسرة
19 بالدولة الحديثة، فهل ننتظر نتايج غير النتايج؟
وفي رأي صالح: "لم يكن
من بأس فيما جرت عليه مصر من فتح قصورها ودواوينها ومعابدها لأبناء جيرانها
ولأسراها وللمرتزقة المسالمين طالما ظلت قوية يقظة وطالما ظلت يدها هي اليد
العليا، ولكن الخطر كل الخطر كان يتمثل في ألا يخلو إخلاص هؤلاء النزلاء لها من
شوائب، وأن يتمصروا بمظهرهم وليس في مخبرهم، وأن يظل بعضهم على استعداد للتنكر لها
متى سنحت لهم فرصة أو ألمت بها نكبة، وما كان أكثر احتمالات النكبات عليها في ذلك
الزمان[29]".
وتسبب السماح للأجانب بالعمل
في شئون الدين بالمعابد المصرية، وهي ركن ركين من أركان الهوية والدولة المصرية،
في تحوير وتحريف دين مصر، فانتشرت الخرافات، والإفراط في تقديس الحيوانات، وذلك
إما عن جهل من هؤلاء الأغراب بجوهر الدين المصري، أو عن عمد لتخريبه كوسيلة من
وسائل إسقاط الدولة المصرية في أيديهم[30]،
أو لتحويل النذور بالطيور المحنطة إلى وسيلة لجني أرباح خيالية.
وصلت تدابير المستوطنين
الأجانب (هكسوس العصر) إلى المشاركة في مؤامرة لاغتيال رمسيس الثالث، رغم أنه ساعد
في تأمينهم من التشرد ورفعهم إلى مراتب عليا.
المؤامرة تورط فيها مع
الأجانب زوجة لرمسيس دب النفور بينها وبينه إلى حد أن تجاهل الفنانون تسجيل اسمها
مع بعض صورها في معبده، وأحست هي برغبته في إقصاء ولدها بنتاورة عن ولاية العهد،
فتآمرت مع بعض سقاة البلاط ونسائه وحرسه وخدمه من المصريين ومن النزلاء المتمصرين[31].
ولكن المؤامرة انكشف أمرها،
وتولى التحقيق فيها بأمر رمسيس الثالث وهو على فراش الموت 14 قاضيًا، كان من
بينهم، وللعجب، 4 تدل أسماؤهم على أنهم لم يكونوا مصريي الأصل[32].
وبدأ المستوطنون الجدد في
الطمع في كل مهنة تلمع في عيونهم، ومنها مهن في مدينة دير المدينة، وهي بلدة
أنشأتها الحكومة في الأسرة 18 في البر الغربي لتضم الحرفيين القائمين على تشييد
المعابد والمقابر في وادي الملوك ووادي الملكات، وتحتضن خيرة الرسامين والنجارين
والبناءين والنقاشين والمهندسين والمصميين، ومن يتداخل بين عمالها، أو يشرف عليها،
يسهل عليه معرفة أسرار المقابر وكنوزها.
وقال علماء آثار إن بعض
الأجانب في أوقات الفوضى كانوا يترصدون في الطريق للعمال المصريين وهم في طريقهم
إلى العمل، ويرهبونهم ويهددونهم ليتركوا العمل، ويأخذ الأجانب مكانهم، مستغلين
الانفلات الأمني في عصر الحكام الضعاف بعد رمسيس الثالث، ووجود أجانب يستقوون بهم
داخل أجهزة الأمن والجيش.
وتشكلت عصابات من الليبيين ]جماعات قادمون من وراء الحدود
الغربية وجزر البحر الأبيض وليس بمعنى الليبيين الحاليين[
والمشاوش تهدد العاملين في المقابر الملكية، فنقل جون ويلسون في كتابه "الليبيون
ونهاية الإمبراطورية المصرية" عن تقارير عمال دير المدنية أن العمال اضطروا
إلى إيقاف العمل بسب الأجانب من الريبو (الليبو)[33].
موقع بلدة دير المدينة في الأقصر |
أما أخطر ما حصل، أن الأجانب هذه
المرة لم يستوطنوا في منطقة واحدة في جهة واحدة من البلد، مثلما استوطن مثلا
الهكسوس القدامى في أماكن منفصلة عن المصريين، بل استوطنوا في كل الأنحاء، فتكتلوا
في الوجه البحري وفي منف والأقصر وبني سويف وغيرهم، في شرق البلد وغربها، قبليها
وبحريها، لفوا البلد كشبكة خيوط العنكبوت، فأصبح بعد حين من السهل شل عروقها كلها
في آن واحد، رغم قلة عدد الأجانب، ولكن محكمين الانتشار والتكتل والتنظيم، فلا يجد
المصريون مساحة واسعة تخلو من الأجانب فيتمترسوا فيها ليعيدوا تنظيم صفوفهم ويهبوا
لقتال المحتلين كما فعلوا وتكتلوا في الوجه القبلي وجهزوا أنفسهم ثم هبوا لطرد
الهكسوس من الوجه البحري.
كما أتاح لهم تعاقب الحكام
الضعاف لمدة طويلة التوغل أكثر وأكثر في مؤسسات الدولة- التي دخلوها بموافقات وقرارات
حكومية بعد تمصرهم الكاذب- والاستيلاء على مناصب ووظايف المصريين، حتى تحين اللحظة
لاستغلال إمكانيات هذه المؤسسات بالتحالف مع بقية المستوطنين المنتشرين في أنحاء
البلد لضرب الضربة القاتلة باحتلال مصر احتلالا كاملا.
فقد تعاقب على العرش بعد
رمسيس الثالث 8 حكام، تسموا جميعا باسمه، ابتداءً من رمسيس الرابع حتى رمسيس 11،
ولذا اشتهر زمنهم باسم عصر الرعامسة، وحكموا ما بين 75- 80 سنة[34]؛
ولضعفهم من ناحية، وانتشار سوس الأجانب في عظام
ونخاع الدولة من ناحية، وتضخم مراكز القوى كالمعابد وغيرها من ناحية أخرى، ساء
توزيع ثروة البلاد، وخفت هيبة القانون، وانتشرت الفتن، واشتدت الضائقة بالناس أكثر
فأكثر، وحدثت مجاعة طويلة في أواخر الأسرة أطلق الناس على أحد أعوامها اسم "عام
الضباع".
فارتفعت أسعار الغلال وبقية
الأقوات إلى 3 أمثالها، وتكررت إضرابات العمال في غرب واسط (طيبة)، وبلغ من ضيق
العمال وجرأتهم أن طلب وزير ذات مرة رجالا منهم ليحملوا متاعا لرمسيس التاسع،
فرفضوا، ورد أحدهم على رسول الوزير بقوله: "دع الوزير نفسه يحمل المتاع[35]"،
كما وصل الفساد الأخلاقى إلى درجة التعدي على حرمات الأموات والمقابر وانتشار سرقة
الآثار، وهو أمر جلل في الثقافة المصرية.
▼▼▼ هكسوس البحر
اختلف علماء الآثار في تسمية فترة الاحتلال التي أطبقت بظلامها
وثقلها على صدر مصر بعد الدولة الحديثة، فبعضهم مثل جونتر فيتمان يصفها بالغزو
الليبي، نسبة إلى أن المحتلين تدفقوا من وراء السواحل والحدود الغربية من ناحية
ليبيا.
وآخرون مثل
عبد العزيز صالح يصفونها بالاحتلال الهجين، لأن المحتلين لا ينتمون لشعب واحد وأرض
واحدة، بل تحالف من شتات قبايل تجمعت من آسيا وجزر البحر المتوسط وحطت على ساحل ليبيا،
وضموا لتحالفهم قبايل هناك، فجمعهم الطمع في غزو مصر، وغلبت عليهم سمات المشاوش القادمين
من جزر البحر أكثر من سمة الريبو أو الليبو، حتى أن شاشنق الذي حكم بداية من الأسرة
22 احتفظ بلقبه في النصوص المصرية، رئيس "ما الكبير" أي رئيس المشاوش وليس
رئيس الريبو، وكذلك كان أبوه وجده، وحمل تاف نخت رأس الأسرة 24 نفس اللقب [36].
إلا أن المتفق عليه أن هذا الاحتلال الاستيطاني كان بداية لإلقاء مصر في نفق الاحتلالات الطويل فيما بعد (الكوشي، الآشوري، الفارسي، الإغريقي، الروماني، العربي، العبيدي (الفاطمي)، الأيوبي، المملوكي، التركي العثمانلي، الفرنسي، العلوي، الإنجليزي) ولم تتحرر منه مصر- رغم كثرة ثوراتها- ويعود لحكمها المصريون إلا في 1952... وهكذا يصدق القول بأن الغفلة عن دروس التاريخ ووصايا "ماعت" نتائجها أبشع وأشنع من الخيانة المقصودة.
(كافة ما سبق من المقالة هو من كتاب "نكبة توطين
الهكسوس"، والمراجع التي يستند إليها، ومن يريد الاستزادة عن ماهي "ماعت"، وأحداث ما قبل كل احتلال من الاحتلال الـ 22 التي سقطت فيها مصر، وأساليب كل هجرة في التسلل لمصر قبل الاحتلالات فليعود إليه، وتحميله من هنا أو من هنا )
▼▼▼ هكسوس القرن 21
نفس الأحداث والخطايا السابقة يسهل
أن نجدها تتكرر قبل كل احتلال قادم لمصر، مع اختلاف الشخصيات وأسامي الجماعات التي
احتلت مصر، وإن كانت غابت عن لسان المصريين كلمة "هكسوس" في وصف
محتليهم، ضمن ما غاب عنهم من كلمات اللغة المصرية القديمة قبل فك رموزها في القرن
19 بعد اكتشاف حجر رشيد.
أما إذا قفزنا إلى وقت احتلال تنظيم الإخوان العالمي
لمصر في 2012 فإننا نجد أنه بشكل تلقائي
هاجت في الصدور، وقفزت على الألسنة كلمة "الهكسوس" من جديد ليصف بها
المصريون تنظيم الإخوان، في أمارة على أنهم اعتبروا أتباع هذا التنظيم ليسوا منهم،
ليسوا مصريين.
بل هم كالاحتلال الاستيطاني الهكسوسي القديم، رغم أن
كثيرا منهم مصري الجنسية منذ أجيال، إلا أن نزعهم الانتماء لمصر من قلوبهم
وعقولهم، وانضمامهم لتنظيم عالمي لا يعترف بمصر ولا بأن "مصر للمصريين"،
بل يرفع شعار الاحتلال "مصر للجميع"، وغدرهم بمصر وتبنيهم للخيانة، جعلهم
يتساوون، تلقائيا، في نظر المصريين الحقيقيين، بالهكسوس الذين تسللوا إلى مصر في
التاريخ القديم، واستأمنهم المصريون على أنفسهم وعلى بلدهم.. فغدروا بهم.
وإن كان حظ المصريين كان سعيدا- هذه المرة- لأن الهكسوس
الجدد (تنظيم الإخوان العالمي) كشفوا وجههم سريعا، فتنبه المصريون سريعا، واحتشدوا
وتكاتفوا ضدهم، وحرروا عرش مصر منهم بعد سنة واحدة في 2013، إلا أن هؤلاء الهكسوس
كانوا عملوا احتياطاتهم بخطة موازية، بأن استجلبوا هكسوسا آخرين غير مكشوفين.
من مظاهرات ثورة 30 يونيو 2013 (تصوير جريدة المصري اليوم) |
فمعلوم دور تنظيم الإخوان العالمي، ومن ورائه تركيا ودول
أخرى والأمم المتحدة، في جلب طوفان من الجنسيات، سوا من سوريا أو فلسطين أو اليمن
أو السودان أو أثيوبيا، أو أرتيريا، أو نيجيريا أو ليبيا إلخ، تحت اسم
"لاجئين"، و"تجار"، و"عمالة" إلى مصر، بداية من
2011، مستغلين غفلة المصريين عن ماضيهم، وجهلهم بطبائع وتاريخ الدول والشعوب
الأخرى، وسرعة تعاطفهم مع من يأتي لبلدهم متوسلا أو مستعطفا.. أو حاملا للبضائع
الغريبة والمغرية.
ومعلوم دور كثير من هذه الجنسيات في دعم تنظيم الإخوان
في احتلال ميدان هشام بركات (رابعة العدوية سابقا) في القاهرة وغيره من ميادين في
2013 في محاولة لإفشال ثورة المصريين ضد التنظيم، ومنهم من حمل السلاح في وجه
المصريين وغرقت يداه في دمائهم.. تماما كما فعل الهكسوس القدامى.. تسلل أو دخول سلمي، فحمل سلاح في الفرصة المناسبة.
مستوطنات سورية وأثيوبية وسودانية ومن عشرات جنسيات تفترش مدن مصر بسهولة |
هذه الأسئلة وغيرها كثير، جعل كلمة "الهكسوس"
تهيج من جديد في صدور الكثير من المصريين، وتقفز تلقائيا على ألسنتهم، ليصفوا بها
هؤلاء.
يصفوا بها ليس جنسية محددة، ولا شعبا بعينه، بل كما فعل
أجدادهم من قبل حين وصفوا بها القبائل والجماعات متعددة الأعراق والملل التي
حدفتها الريح السموم من الشرق عليهم في الأسرة 12 و 13، حتى احتلوهم بعدها بالغدر،
وكذلك مثلما قالوا كلمة "خاسوت" على القبائل والجماعات متعددة الأعراق
والمجهول كثير منها التي حدفتها الريح السموم من الشرق ومن الشمال ومن الغرب في
الأسرة 20، واستوطن بعضهم في مصر كأسرى حرب وخدم، ثم غدروها.
وهكذا يطلقونها على أي جنسية أو ملة من أي اتجاه، مدامت ستكرر الذكرى المرَّة.
وهكذا يطلقونها على أي جنسية أو ملة من أي اتجاه، مدامت ستكرر الذكرى المرَّة.
للمزيد عن أسباب ووثائق دعم التنظيمات العالمية وتركيا وغيرهم لإرسال وتوطين الهكسوس الجدد في مصر أنظر هذه الأجزاء من هذه الدراسة:
▼▼▼ غدر ليس كمثله غدر
أما الغدر الجديد الذي يتخوف منه المصريون، فلن يكون مثل
أي غدر سبق.
فالغادرون السابقون من هكسوس التاريخ القديم كانوا
يتحركون حسب قوتهم وأساليبهم الخاصة بهم، معتمدين فقط على غفلة المصريين عن دروس
تاريخهم وطباع الشعوب الأجنبية، أما هكسوس التاريخ الحالي فإنهم بجانب قوتهم
وأساليبهم الخاصة بهم، مدعومين دعما عالميا لم يسبق له مثيل، من دول وتنظيمات
عالمية وتدفقات لا تنتهي من الأموال والفرص، والأخطر قدرتهم على التمليك وكثرة
الزواج من مصريين والتجنيس.. فيصير الهكسوس في الأوراق الرسمية "مصريا"
ليصل إلى مناصب مصر أسرع بكثير من أسلافه الهكسوس القدامى.
والأهم.. أن الهكسوس الجدد يعتمدون على السلاح التاريخي الأقوى..
وهو غفلة المصريين عن تاريخهم، ودروس ماضيهم، و"وصية حور"، وطباع الشعوب التي يتعاملون معها،
توهانهم عن هويتهم الأصلية وقيمة مصر الحقيقية، وتشتتهم ما بين هويات هكسوسية
كالقومية العربية أو الأفريقية أو هويات تتمسح بالدين، أو ما يُسمى بالهوية
الإنسانية التي يتبناها اليساريون والعولميون، وكلها تقول في نفس واحد "مصر
للجميع"... عدا المصريين.
مصر للمصريين.. مبدأ وشعار الأجداد الخالد، وفي قلب شريعة "ماعت" التي ألزمت المصريين بحفظ حدودهم، ويرتفع في كافة الثورات المصرية ضد المحتلين في كل عصر |
__________________
بقلم: إفتكار السيد (نفرتاري أحمس)
مقالات ذات صلة :
- ليه توطين الأجانب نكبة وخطيئة؟
- مين ضد "مصر للمصريين" ومع "مصر لمن غلب"؟
_______________
مقالات ذات صلة :
- ليه توطين الأجانب نكبة وخطيئة؟
- مين ضد "مصر للمصريين" ومع "مصر لمن غلب"؟
_______________
المراجع :
([30])- تكرر هذا في
فترات أخرى، أي تحكم الأجانب في الفكر الديني المصري في عصور لاحقة، ومنها نشر
خرافات الطرق الصوفية في كل قرية، وقدوم شخصيات من الشام وغيرها، كمحب الدين
الخطيب ورشيد رضا، إلى مصر، وسيطرتها على مساجد وجمعيات لتصنع فكر تنظيم الإخوان
المسلمين والتنظيمات السلفية، أو كما حدث في نشاط الإرساليات الأوروبية التي
استهدفت خلخلة الكنيسة المصرية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق