يوجد في العالم نوعان من المهاجرين، مهاجر الملح والسلام، ومهاجر الزلط والنار، الأول قليل، وهو الذي يذوب في هوية البلد، والثاني الشائع وهو الذي يحرقها.
كاريكاتير نشرته صحافة فرانكفورت 1848يصور "المهاجر الناري" روتشيلد وورائه أكياس الذهب المكدسة، وأمامه ملوك أوروبا راكعين يتوسلون ليعطيهم قروضا لتمويل حروبهم أوإعادة إعمار بلادهم المدمرة (المصدر: كتاب "مخلوق من جزيرة جيكل وتمويل المؤامرة" لإدوارد جريفين)
▲ مهاجر الملح/السلام.. يذوب في هوية البلد التي يأوي إليها، وبمرور الوقت لا يتميز عن أهلها في شيء، وينسى أولاده وأحفاده البلد الأجنبي التي جاء منها؛ لأنه لا يورثهم هويتها، وينتمون للبلد التي هم فيها وحدها، فيكون "بردا وسلاما" عليها، خاصة إن كانت في حاجة ماسة للسكان واقتصادها يسمح بدخول مهاجرين.
▼ مهاجر الزلط/النار.. لا يذوب في البلد التي يأوي إليها أبدا، ويُعلِّم أولاده وأحفاده ألا ينتمون لها، ولو عاشوا فيها مئات السنين، ويتوارثون أنهم "مهاجرون"، كالزلط لا يذوب في الماء ولو نُقع فيه لنهاية الدهر، أو كالزلط القاسي وسط غيط سنابل القمح الطيب، وأنهم مختلفون ومتميزون عرقيا أو دينيا أو لغويا أو قبائليا، ويجب أن يكونوا أصحاب النفوذ والسطوة، وكأنهم الرب الأعلى، أما أهل البلد فمجرد أتباع، أو أجساد تتكبد العمل الشاق الذي يُدير ماكينات ثروتهم.
وفي حالات أخرى، حين يكثر عددهم، فإنهم إن فشلوا في حكم البلد، يسعون لقطع أراضي منها، وتحويلها لإقليم خاص بهم، ومع الزمن يطالبون بحكم ذاتي؛ فانفصال.
وهؤلاء، في حالتي احتكار البلد، أو تقسيمها والانفصال بجزء منها، مثلهم كمثل المحتل المعتدي بالسلاح، قدماه في البلد ويداه واحدة في جيوبها والثانية على رقبتها، وقلبه خارجها، يعيشون فيها "نارا وجرادًا"، ومن بين أيديهم وأرجلهم تخرج الصراعات الطائفية والعرقية والمذهبية واللغوية والحروب داخل وبين الدول.. ويخنقون روح الدولة الوطنية الحقيقية.
إخطبوط القبيلة
يقول المراسل السويسري جون نينيه في رسالة بعثها من مصر لصحف أوروبية في 27-1-1881 مستعرضا دور روتشيلد في تخريب مصر وفي دعم الخديوي توفيق ضد الثورة المصرية الرافضة لسيطرة الأجانب أيام عرابي: "إن عائلة روتشيلد ليس لها أية جنسية في الحقيقة، ولكن يمكن أن يكونوا إنجليزا وفرنسيين وألمانا ونمساويين، سيكون لديهم بلا شك ذات مرة فرصة الاختيار من أجل أن يعملوا على ميل الميزان السياسي لصالح إحدى هذه القوى حسب السعر الذي سيكون مدفوعا لهم، وسبق أن نصف أسهم قناة السويس انتقل بواسطة تدخلهم وبتحريض اللورد بيكونسفيلد (دذرائيلي) إلى أيدي البيوت في القسطنطينية"[1].
وروتشيلد هذا، هو مثال على "مهاجر الزلط/ مهاجر النار" ، وأحد أفراد أسرة تحمل نفس الاسم، ونفس الوظيفة.. نشر كل ما هو أجنبي في كل بلد، هجرات أو أفكار أو ثقافات أو شركات؛ لتكون السنارة التي تُصطاد بها هذه البلد، وتسقط في حجرهم، ثم يسلمونها لإمبراطوريتهم العالمية.
مؤسس الأسرة هو آمشل موس باور، مرابي يهودي، عمل في صاغة الذهب، معدنهم المفضل؛ فهو أغلى ثروة وسهل حمله والفرار به بين بلد وبلد في أي ظرف، وبعد تجوال طويل في أوروبا الشرقية استقر سنة 1743 في فرانكفورت الألمانية، وأسس مركزا للمعاملات المالية.
وبعد وفاته خلفه ابنه آمشل ماير باور الذي حفظ أسرار أبيه في الربا والذهب وروح الإمبراطورية، وحمل لقب روتشيلد، ووزع الأبناء والأحفاد عمدا على 5 بلاد (إنجلترا، ألمانيا، فرنسا، النمسا، إيطاليا)، حملوا جنسياتها لتكون ورقة مرورهم للمراكز والتحكم بداخلها، فكانوا كالقبيلة التي تتفرع بطونها على عدة دول تحمل جنسيتها وولائهم الحقيقي للقبيلة.
وهو نفس فكر التنظيمات العالمية التي تتفرع كالإخطبوط في كل دولة، يدعي كل ذراع فيها أنه من الدولة، ويتجنس بجنسيتها، وما هو إلا ذراع تحتكر الدولة وتطويها لتسلمها إلى رأس الأخطبوط، وربما لخدمة هذا الهدف استغل هؤلاء ما رفعته الثورة الفرنسية، التي شارك في إشعالها روتشيلد، عن "الحرية والإخاء والمساواة" في نشر "تجنيس الأجانب" في العالم.
وفي 1773 استضاف آمشل ماير باور (روتشيلد الأول) 12 من أرباب المال العالميين في فرانكفورت في مؤتمر لتأسيس احتكار عالمي يضخم سلطانهم المالي وإمكانيات كل منهم التي تضخمت بالاستيلاء على بريطانيا وإشعال حروب أوروبية، وكان بداية نظام الاقتصاد العالمي الجاري فرضه على الجميع [2].
سرطان الاستيطان الأجنبي
ورأس الحربة فيه تكتلات من الشركات متعددة الجنسيات والمستوطنين الأجانب في كل بلد، أولئك الذين يجري تحريضهم دائما على عدم الانتماء لهوية البلد التي آواتهم، وأن يظلوا "مختلفين" كالزيت فوق الماء، حتى وإن حصلوا على جنسيتها، في مقابل الحصول على امتيازات خارقة تجعلهم رقم (1) في البلد، وفوق جميع أهلها، وتوفرها لهم الاتفاقيات الدولية التي تضعها تنظيمات عالمية لا تعترف بالوطنية، ولا تضيقها، وتمكَّن للمهاجر "الزلطة" في كل بلد تحت اسم "قبول الآخر"، و"احترام التعددية والاختلاف"، و"حقوق الإنسان والمساواة".
وذاقت مصر من كأسهم الأمرِّين، منذ شجعوا فتح مصر للهجرات الأجنبية ولبنوك الربا التابعة لروتشيلد وجوشن وأوبنهايم، والقروض على يد عائلة محمد علي القرن 19، وكبلت هذه الهجرات والبنوك مصر بالديون تحت إغراء عمل مشروعات كبرى، كقناة السويس ومشاريع الخديوي إسماعيل، وإفشال ثورة 1881 التي رفعت راية "مصر للمصريين"، حتى سقطت البلد ومشاريعها كثمرة ناضجة في حجر المستوطنين الأجانب، وبنوك روتشيلد وشركاه، وبقي للمصريين كأس تسديد الديون وفوائدها.
وحتى تدوم مصر مترنحة في سكرة سقوطها، سلَّم الاحتلال الصحافة والمسرح للأجانب من يهود وشوام وأرمن ويونان ومغاربة ليشتتوا مصر عن هويتها الكامنة فيها، ويمزقوها بين هويات شيوعية وليبرالية وأوروبية وعربية وعثمانية وإخوانية ومسيحية.
وبدا من تتبع الأحداث وقت وبعد ثورة 1881، أن أكثر ما أفجع وأقلق إمبراطورية بنوك فروهلينج (عائلة اللورد كرومر) وروتشيلد وجوشن وأوبنهايم، وغيرهم من تكتلات أجنبية تسعى للهيمنة، لم يكن مجرد أن مصر قد تعود دولة مستقلة قوية؛ فإنجلترا دولة مستقلة وقوية لكنهم يهيمنون عليها ويحكمونها ببنك إنجلترا، وكذلك فرنسا عبر بنك باريس، وأمريكا عبر البنك الاحتياطي الفيدرالي.
ولكن الهلع كان من أن تعود مصر لأهلها الحقيقيين؛ لأنه إن صارت مصر للمصريين وكل بلد يحكمها فقط أهلها المنتمون لها وحدها، ودستورها هو هويتها الأصيلة المتفردة، وانتعشت الدولة الوطنية، من أين يجدون من يفتح لهم الأبواب ويقبل هيمنة إمبراطورياتهم عليها؟[3]
كاريكاتير نشرته صحافة أوروبا 1894 لأخطبوط نفوذ روتشيلد، وأحد أذرعه تلتف حول مصر بعد احتلال الإنجليز لها ورهن اقتصادها لبنوك إنجلترا وفرنسا المهيمن عليها عائلة روتشيلد (https://neverwasmag.com/1894-english-octopus-cartoon/)
وبدا أيضا أن مصر لم تستسلم لسقوطها المروع في قبضة الإنجليز والجاليات الأجنبية، فالتقطت من جديد راية "مصر للمصريين" من على الأرض، ورفعتها في جهاد جديد بدأ مع مصطفى كامل ومحمد فريد مرورا بكافة الثورات حتى ثورة 1952 وقرارات التأميم والتمصير وسحق الامتيازات الأجنبية.. وأنف روتشيلد وشركاه.
تفخيخ الدولة بالأعراق والطوائف والمختلفين
إلا أن هؤلاء كالنار المجوسية، تخمد ولا تنطفئ، فلملموا خسائرهم، وعادوا لينصبوا أعمدتهم في مصر، بنفس الأيدي.. اللاجئون والمهاجرون والمجنسون الزلط، والديون والتمويل، ونشر المفاسد والرذائل والانقسامات والهويات الأجنبية، وتكبيل مصر بالاتفاقيات الدولية.
بالطبع أطماعهم وتوسعاتهم هذه لا تشمل مصر وحدها، ولكن نأخذ مصر مثالا لأنها أكثر ما يهمنا، أما شبكتهم فمفرودة لاصطياد جميع البلاد، وهذا لم يعد يصلح له التنظيمات والبنوك العائلية مهما تضخمت، كروتشيلد ومورجان وروكفلر، فبعض الشعوب قاومتها باعتبارها جسما غريبا، وانتصرت عليها في جولات كثيرة وأزاحتهم من بلادها، فكان لزاما أن يكون ذلك عبر منظمة عالمية، تتكون- صوريا- بيد الحكومات، وتقدم نفسها على أنها الأم والمنقذ للعالم، فكانت عصبة الأمم 1914، فالأمم المتحدة 1945، ومن سار على دربهم من منظمات قارية وإقليمية.
وعلى مائدتها، قدمت العائلات الأخطبوطية ومن يعاونها من تنظيمات ظاهرة أو خفية، أطباقها السامة (التحكم في اقتصاد البلاد، تمكين اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين قبل الشرعيين، تحويل كل بلد إلى كانتونات من تكتلات متنافرة عرقيا ومذهبيا وأخلاقيا ولغويا، نصرة العقيدة العالمية على الدولة الوطنية، بالفجور (الدعارة والشذوذ الجنسي)، نشر روح التمرد والاستقواء بالأجنبي) على أنها وجبات شهية، في بوفيه مفتوح، عنوانه "القانون الدولي والاتفاقيات الدولية"، وملاعقه تسمى "حقوق الإنسان"، "قبول الآخر"، "احترام التعددية والتنوع والاختلاف"، "نصرة المستضعفين كالمرأة والأقليات واللاجئين"، و"تحقيق المساواة".
وفي هذه الدراسة (الاغتيال الكبير.. اغتيال الدولة الوطنية في وثائق الأمم المتحدة وبناتها)، نركز على الطبق الرئيسي، وهو تمكين اللاجئين والمهاجرين الزلط؛ لأنه المفتاح الأول من مفاتيح الاختراق طول التاريخ، وأمر أساسي لنفهم ما جرى في مصر قديما، وما يجري الآن، وما سيجري.
ولنتابع مشاهد الآن مما يجري للمدعوين في هذا البوفيه الكبير، الذي دخلوه عشمًا في أن يغرفوا من المشهيات، فإذا ببعضهم يكتشف أنهم إنما هم.. الذبائح.
|
المقالة مأخوذة بالنص من:
كتاب الاغتيال الكبير.. اغتيال الدولة الوطنية في وثائق الأمم المتحدة وبناتها، مع مقارنة بالامتيازات الأجنبية في مصر قبل 1952
من ص 17- 23
تحميل الكتاب:
المراجع
([1])- رسائل من مصر(1879- 1882)جون نينيه، ترجمة فتحي العشري، ط1، المجلس الأعلى للثقافة،القاهرة، 2005، ص 227
([2])- انظر أحجار على رقعة الشطرنج، ، وليم جاي كار، ترجمة سعيد جزائرلي، دار النفائس، ط 1، 1970، ص 88- 90 ونكبة توطين الهكسوس- النكبة المصرية، ج1، إفتكار البنداري السيد (نفرتاري أحمس)، القاهرة، 2019، ص 504- 505
[[3]] لتفاصيل كيف نصب المهاجرون الناريون وما يسمى بتنظيم الناريين/النورانيين شباكهم حول مصر من بوابة الديون والجاليات الأجنبية، ثم سقوط معظم المشاريع التي خنق إسماعيل مصر بالديون لأجلها في حجرهم، وكيف قاومهم المصريون، راجع:
- مصر وكيف غُدر بها، ألبرت فارمان، ترجمة عبد الفتاح عنايت، تحقيق إبتسام عبد الفتاح عنايت، الزهراء للإعلام العربي، ط1،القاهرة، 1995
- تاريخ النهب الاستعماري لمصر 1798- 1882، جون مارلو، ترجمة عبد العظيم رمضان، الهيئة المصرية العامة للكتاب،القاهرة، 1976
- رسائل من مصر (1879- 1882)، جون نينيه، مرجع سابق، و- نكبة توطين الهكسوس- النكبة المصرية، مرجع سابق
0 التعليقات:
إرسال تعليق