التاريخ الميلادي

السبت، 3 أكتوبر 2020

دور "المرتزقة الشوام-المغاربة" في الحرب على "مصر للمصريين" أيام الاحتلال الإنجليزي-العلوي(2)

  تتابع هذه المقالة أساليب الصحفيين الشوام- وانضم لهم صحفيون مغاربة وعثمانيين- لإهالة التراب على ثورة 1881، وتدمير ما بقي من سمعة عرابي وإخوانه، وخدمة خطة الاحتلال الإنجليزي في خنق وعصر أي مقاومة مصرية جديدة، وفي "إفساد أخلاق المصريين وعقولهم"؛ ليبقوا تحت قدمي الاحتلال والمستوطنين الأجانب بلا حركة.

أمثلة للصحف التي سلَّمها الاحتلال للصحفيين الشوام في مصر
ركزت الصحف التي سلَّمها الإنجليز للصحفيين الأجانب على هدفين: كسر المقاومة المصرية + إفساد المصريين
ومن الأساليب التي استخدمها الصحفيون الشوام والمغاربة والعثمانيين لتحقيق هذا الهدف هي: 

- تسريب أفكارهم عن طريق الروايات الأدبية

- التجارة بالدين، بتصوير المقاومة المصرية على إنها ضد الدين

- لزق أقبح الشتائم بعرابي وقادة ثورة 1881 ولزق أحلى الصفات بالخونة

- الوقوف ضد عودة عرابي وصحبه من المنفى

- غلق الصفح المصرية وتكتيف الصحفيين المصريين المخلصين

-محاربة الهوية المصرية بنشر الأوربة وتحقير الفلاح







▼▼▼تزوير التاريخ بالروايات الأدبية

 ودخلوا على خط الروايات في تزوير التاريخ للأجيال المعاصرة والقادمة، فكتب الشامي إسكندر شاهين (ابن أخ مكاريوس شاهين) رواية غرامية باسم "تحفة العصر أو الإنجليز في مصر" يعدد فيها محاسن الإنجليز في مصر وأشكال الارتباط بينهم وبين المصريين وتعرض لثورة 1881، وخصصت وزارة المعارف جوائز على من يفوز من المصريين بمعرفة اللغة الإنجليزية([1]).

ويصف سعد زغلول- وهو أحد المشاركين في ثورة 1881- للشيخ محمد عبده متحسرا على الاضطرابات والتقلبات التي لعبت في الرأي العام بعد سنين قليلة من الثورة بسبب هذا النشاط الصحفي المحموم ضد المقاومة المصرية: "الناس أخذوا في نسيان ما فات من الحوادث وأهوالها، وقلت قالتهم فيها، وخفت شماتة الشامتين منهم، وأصبح المادحون للإنجليز من القادحين فيهم، وبالعكس".

 وسعى زغلول لإصدار صحيفة باسم "العدالة" ليرد فيها على مشاعر الاستكانة والأكاذيب التي تروجها صحيفة "المقطم" لكن اختياره قاضيا أوقفه عن الاستمرار.

أما محمد عبده نفسه فبعد حبسه ثم نفيه عقابا على اشتراكه في الثورة، فإنه حين قبلت حكومة الاحتلال عودته من المنفى اشترطت عليه عدم العمل في الصحافة([2]).

وبذلك سارت الحياة رتيبة هانئة للاحتلال في سنواته الأولى، حتى عاب حافظ إبراهيم على الشباب التفاهة وتجاهل المثل العليا، مع الاهتمام بالغريب أكثر من أهله المصريين، وقال في 1904:

أمة قد فَتَّ فى ساعـدها                               بغضُها الأهلَ و حبُ الغربا

وهى والأحداث تستهدفها                              تعشق اللهو و تهوى الطربا

لا تبالى لعب القــوم بها                               أم بها صرف الليالى لعبـا([3])

وظلت الحركة الوطنية خافتة مطمورة تحت الرماد حتى فجرتها مرة أخرى مدبحة دنشواي.

 ويعترف كرومر بأنه رغم هذا الضغط الصحفي لكن "الوطنية الحقيقية استمرت حية طوال الاحتلال، ولو أن صوتها كان خافتا إلى حد كبير".

▼▼▼ الوقوف ضد عودة عرابي من المنفى

 ويستدل سامي عزيز في كتابه "الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي" على استمرار جذوة ثورة 1881 وتعلق الناس بها باستمرار اشتداد الصحف العربية والتابعة للإنجليز والعثمانلية وفرنسا في تحقير شأن عرابي والفلاحين.

 فحين تردد أن عرابي قد يعود لمصر 1885 تصدت جريدة "المحروسة" لصاحبها الشامي خليل النقاش بنصح ملك إنجلترا: "أن لا تأذن لزعيم القتلة المخربين الآثمين في 1882 أن يرجع مارا بالأسكندرية أو مصر فإن في هاتين المدينتين نساء ورجالا وأطفالا قد فجعوا بأفلاذ أكبادهم بسبب زعيم العصابة". وقد تقصد بهؤلاء العائلات الأجنبية التي مات بعض أفرادها خلال الأحداث.

 ولما ناقش مجلس العموم البريطاني عودة عرابي من المنفى لأن المسألة بينه وبين بريطانيا مسألة سياسية انزعجت "المقطم" في 1890 لتقول: "هل اغتصاب البلاد وسفك دماء العباد واهتضام الحقوق مسألة سياسية"([4]).

 فاعتبرت أن عرابي والفلاحين "اغتصبوا" مصر، كأنها تقرأ في قاموس المسيخ الدجال، من يحرر بلاده "مغتصب"، ومن يحتل بلاد غيره بالسلاح (الإنجليز) أو بالصحافة (الشوام والمغاربة والأرمن إلخ) "محرر".

 وحاربت "المحروسة" القومية المصرية، فكانت اتجاهاتها لدعم السلطان العثمانلي وفي نفس الوقت دعم الثقافة الفرنسية ونشر صالوناتها([5]).

 ويقول الشامي فارس نمر إن "المصريين عندما يتحدثوا عن الاستقلال إنما يعنون حالة مشابهة لما عليه تركيا من سوء إدارة وإرهاب وبربرية في كل صورها"([6])، أي لا يصلحون للاستقلال.

واشتعلت نيران صحيفة "الوطن" على الزعيم عبد الله النديم لأنه من المصريين الذين قدموا صحافة مصرية حقيقية، مع ما هو معروف عنه من دور جليل في ثورة 1881، فاعتبرته لا يصلح صحفيا، وبكلامه عن تحرير مصر من الإنجليز يتدخل فيما لا يعنيه، فقالت: "وخطأ هؤلاء الناس تصديهم مما لا يعنيهم وحشر أنفسهم في زمرة السياسيين([7])"، مع أن النديم من زعماء ثورة 1881.

  ومن المؤلم أن صحيفة "الوطن" صاحبها "مصري"، هو ميخائيل عبد السيد، وإن كان العجب يقل إذا علمنا أن صاحبها خريج مدارس الأمريكان التبشيرية بالقاهرة،وهي نفس نوعية المدارس التي تخرج منها الصحفيون الشوام في بلادهم، مدارس الإرساليات التبشيرية في الشام، وكان له صدقاته الوطيدة بهم.

▼▼▼ غلق الصحف المصرية ووصف المقاومة بأبشع الصفات

  وصارت هذه الصحف وغيرها لا تذكر عرابي والفلاحين المتمسكين بالثورة إلا بكلمة "العصاة"، "الطاعون"، "الطغاة البغاة"ـ "العصابة"، "الفئة الباغية"، "الأشقياء المفدسين المتمردين"، وتصف الخديو والإنجليز ومن سار ورائهم بأنهم "أصحاب المروءة"، و"المحررين"، و"المصلحين"([8]).

عرابي واثنين من قادة ثورة 1881، لم ترحمهم الصحافة الأجنبية التابعة للاحتلال حتى بعد النفي
عرابي واثنين من قادة ثورة 1881، لم ترحمهم الصحافة الأجنبية التابعة للاحتلال حتى بعد النفي

وخلال تنظيمه لأمور احتلال مصر أوصى "دوفرين"، قنصل إنجلترا في إسطنبول وأتى لمصر بعد موقعة التل الكبير لتنظيم أمور الاحتلال، في تقريره بأنه "يلزم لجعل هذه النظم مثمرة وفعالة أن تمنح الصحافة حرية تامة".

  لكن حرية لمن؟ فعقب هذه الكلمة لقيت الصحف المصرية حتفها واحدة وراء الأخرى كالـ"الطائف" لصاحبها عبد الله النديم، و"المفيد"، و"السفير"، و"النجاح" لصاحبهم حسن الشمسي.

  وعلى العكس تمتعت الصحف التي يديرها الشوام والعثمانلية والأرمن والمغاربة والصحف الأوروبية المؤيدة للإنجليز بالصدور والتمويل من غير عوائق.

  ومنتشيا قال فارس نمر إن الحرية المعطاة للصحافة في مصر أوسع نطاقا من حرية الصحافة في فرنسا ذاتها، فيما قال حسن حسني صاحب صحيفة "النيل" (صاحبها عثمانلي مؤيد للإنجليز) إن "الحرية المعطاة لجرائدنا المصرية هي فوق الكفاية".

 ويصف الصحفيون الشوام مصر بأنها "مصر الحرة"، التي اتخذها "الأحرار"، يقصد الشوام "موطنا لهم"، وأنها انتفعت بهم كما انتفعوا بها.

 ويعلق على هذا سامي عزيز: "يتبين أن حرية الصحافة في عهد كرومر إذن كانت أسطورة ضخمة كثر الحديث عنها"([9])؛ لأن الحرية كانت فقط لمن يقفون إلى جانب الاحتلال- وأكثرهم أجانب- ضد المقاومة المصرية.

▼▼▼(تلميع الأوربة.. قلع الجذور)

 ولوحظ أن الصحف التي أصدرها الشوام على أنها صحف حقوقية أو زراعية أو علمية أو أدبية تسخر هذه المجالات لتمليع الاحتلال أيضا- وليس فقط الصحف السياسية- وإغراء المصريين بالبعد عن كل ما هو مصري.

  فمثلا "المقتطف" العلمية حين تصدر مقالا علميا عن تكوين الثروة في بريطانيا تشيد بطرق بريطانيا في تكوين الثروة وأنها قدوة للأمم، ومجلة "الحقوق" القضائية لصاحبها شبلي شميل (خريج مدرسة الأمريكان ببيروت) تكتب أن مصر "لم ترتع منذ قرون عديدة بما ترتع به في الأزمنة الحاضرة من بحابح الأمن والعدالة"، وصحيفة "اللطائف" الأدبية لصاحبها شاهين مكاريوس قدمت الملكة فكتوريا- التي تم في عهدها احتلال مصر- بأن من مآثرها أنها أسست في" الشعب الإنجليزي حب الاستعمار".

وهكذا جرى حصار الوعي المصري في الحاضر والمستقبل في كل الاتجاهات، ومداومة الاطلاع على مثل هذا المحتوي "ستتكون منه رواسب ترسخ بمرور الوقت حتى تصبح يقينا"[10].

  وليس صعبا اختبار صحة هذا الكلام، فإن طاعون تمجيد الاحتلال الذي نراه في كثير من المصريين المتعلمين اليوم وإشادتهم بعصور الاحتلالات أكبر برهان.

 ومن وسايل تكريه المصري في أي شيء يخص الفلاح المصري، حتى قيمه، هو ربط كل خلق حميد بأوروبا وليس بمصر، حتى لو كان يوجد مثله أو أفضل منه في القيم المصرية، فاهتمت صحف الحزب الفرنساوي الشامية مثل "المحروسة"، و"الأهرام" بتسويق كل ما هو فرنسي في الأدب والسلوكيات والعادات وطرق الكلام.

  ودعت صحف الحزب الإنجليزي كـ "المقطم"، و"اللطائف" و"الاتحاد المصري" للاقتداء بالملوك والأدباء الإنجليز، فمثلا تقول الصحيفة الأخيرة: "ما من شيء يفضي إلى الملل نظير الحديث المكرر حتى ولو كان قائله من فطاحل الرجال، ولو اقتدى هؤلاء بالإفرنج واقتصروا على إظهار أفكارهم باختصار لأراحوا الناس"، رغبة في إشعار الفلاح بأنه متخلف لا نجاة له إلا أن يكون مسخا أوروبيا.

  وأشهر مظاهر تقليد المصريين- بعض المتعلمين- لأوروبا استسهال شرب الخمر، القمار، ترك الجلابية الفلاحي والتباهي بالموضة الأوروبي، استخدام التحيات والتعبيرات الأجنبية "بنجور، أورفوار، بنسوار، باردون، إلخ"، استسهال العلاقات المحرمة بين شباب وشابات ويسمونها "شقاوة"، أو "حياة عصرية"، "حفلات الرقص الغربي"، "تصميم المنازل واختيار أثاثها على الطراز الفرنسي والإيطالي، الاتجاه للزواج بالأجانب، تسمية الأسامي الأجنبية، سباقات الخيل.

 وكذلك انزلاق بعض المصريين إلى المذاهب الغربية الدينية الوافدة كالبروتستانت والكاثوليك التي تنافس الكنيسة المصرية، والمذاهب السياسية كالليبرالية الرأسمالية باعتبار أن الحزبية رغم ما تجلبه من فرقة وخصومة هي الأساس الصحيح لحياة ديمقراطية، كما سعوا لنشر التفكير المادي، واعتبار كل الأخلاق المصرية "دَقة قديمة"، وتفضيل الآداب والروايات الأوروبية على الأدب المصري الشعبي، واختصار كلمة حضارة في أوروبا، إلخ.

  وعلى حد وصف أحد الكتاب الفرنسيين وقتها فإن "الاحتلال لن يأتي بشعب جديد إلى مصر، ولكنه يعمل بصبر على تغيير الأسس التي تقوم عليها مقومات الشعب"[11].

  ولمس هذا عبد الله النديم، وهزَّ قومه المصريين هزَّا قبل نفيه الأخير إلى الأستانة، وهو يقول إن تفرنج البلاد يمحو التقاليد المصرية والعادات المصرية، ويضعف الإيمان بالخلق الإسلامي نفسه إلى الأبد[12]، كما رصده طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر"، وأن البلد تحولت في التعليم ونظام الحكم  إلى النمط الأوروبي: "ما في ذلك شك ولا نزاع، نحن كون أبناءنا في مدارسنا الأولية والثانوية والعالية تكوينا أوروبيا لا تشوبه شائبة"[13]"، وإن كان هذا لم يتعدَّ الأغنياء والمتعلمين.

الزعيم عبد الله النديم
الزعيم عبد  الله النديم تصدى للصحفيين الشوام ودورهم في إفساد المصريين حتى آخر يوم 

  وصرح كرومر في كتابه "مصر الحديثة" بأن الشرط الأساسي لتوظيف المصريين "تشبعهم بالحضارة الأوروبية، وأن يكونوا قد حصلوا على التعليم اللازم لتطبيق النظريات الغربية في النظم الحكومية"، وبالمثل يقول ألفريد ملنر في كتابه "إنجلترا في مصر"، إن "هدف الاحتلال لم يكن نجلزة أصحاب السلطة المصريين من ناحية المبادئ السياسية، لكن كان الهدف نجلزتهم من الناحية المعنوية حتى يؤدوا مهامهم بنفس الروح التي يؤديها بها الفرد الإنجليزي".

أي بنفس الولاء للإنجليز والقيم الأجنبية.

▼▼▼استخدام الصحافة في محاربة المقاومة المصرية بالدين

 وضمن حاشية الاحتلال الإنجليزي أو العثمانلي الصحفية كان مغاربة، منهم محمد بيرم الخامس، هرب من تونس من وجه الاحتلال الفرنسي إلى الأستانة، ومنها جاء ليجاهد ضد الاحتلال الفرنسي من مصر، فكان "جهاده" مناصرة الاحتلال الإنجليزي باعتبار أن الإنجليز أعداء فرنسا، ولم يهتم بمصلحة مصر التي "يجاهد" من فوق أرضها ومن خيراتها.

 وكان من أوائل من مزج الدين بالسياسة لإقناع المصريين بعبادة الاحتلال عبر صحيفته "الأعلام"، وذلك بأن دعت إلى أن أوامر الدين تقضي باتباع الحاكم (توفيق التابع للإنجليز حينها)، فتقول الصحيفة: "فالخديو توفيق منذ صعد منصة الخديوية كان أول خطاب له مؤذن بإجراء الحرية، ومن فروعها حرية المطبوعات، ولقد رأينا إصدار جريدتنا تنحو "منحى" الملاءمة بين الشريعة والسياسة"، وأنه "لذلك أسسناها لتعضيد سياسة حكومتنا السنية".

 واستدعت من التاريخ أحداثا تخص مسلمين وفصلتها تفصيلا جديدا لتبرر بها تأييد الإنجليز، فقالت في 1885 (بعد 3 سنين من كسر ثورة 1881) : "إن الرسول أمر جمعا من أصحابه وفيهم ابنته بالاحتماء بملك الحبشة وهو نصراني من ظلم مشركي العرب، وأقاموا عنده مدة، وهذا دليل لجواز الاحتماء بغير المسلم، وقد استدل به الفقهاء في الأفراد والعلة جارية في الكل، والحالة الراهنة شاهدة به، فإن لم يكن تسلط الإنجليز الذي هو عبارة عن حراسة فقط مع بقاء الأمور على مجراها كان تسلط غيرهم وحالة الذين تحت أيديهم معلومة ولو مع أبناء ملتهم"، وهو يلقح بهذا الكلام أن الإنجليز أفضل من العثمانلية([14]).

 ومن صحافة التجارة بالدين صحيفتي "الاعتدال"، و"البرهان" للتونسي حمزة فتح الله لصالح السلطان العثمانلي، وصب نارا على عرابي وكل المصريين في عز احتدام المعارك مع الإنجليز، فظل يفسر الآيات والأحاديث بما يعني أن عرابي مذنبا، وشكا منه عرابي في مذكراته وأورد أجزءا مما كتبه.

 ثم تحولت جريدة "البرهان" ومعها "الزمان" العثمانيتين لدعم الإنجليز ضد أي حركة وطنية جديدة تتنفس بعد الاحتلال، داعية المصريين إلى الاستكانة، قالت "الزمان" في صفحتها الأولى: "الاعتدال أسلم فلم تمر بك الأيام التي تنسيك هذه الغصص والصروف التي جلبتها أعوان الحماقة"، في إشارة إلى ثورة 1881.

 وطالبت "البرهان" 1883  بتشكيل لجنة من الإنجليز والمصريين لتتبع الوطنيين بعد ظهور أخبار عن تشكل جمعيات سرية تسعى لاستكمال طريق ثورة 1881 ضد الإنجليز: "حتى يطهر القطر من رجس المفسدين"، كاشفة عن تخوفها من صحوة فلاحية جديدة: " فكنا قد ظننا أنه لا يجرأ أحد من أبناء البلاد على هذا السعي الممقوت غير أن شواهد الأحوال نبأتنا بغير ما كان في الحسبان"، معتبرة أن كل مصري يقاوم الإنجليز "خائن أثيم".

 وفي 1884 دعت صحيفة "الزمان" المصريين إلى النوم وترك السياسة لمن يفهم فيها، خصوصا أن الله "أرسل إنجلترا لتساعد المصريين"([15]):

وإذا العناية لاحظتك عيونها                 نم فالمخاوف لهن أمان

وملحوظة مهمة هنا، وهو أن حمزة فتح الله- أبوه تونسي هاجر لمصر وأنجب حمزة فيها، وذهب إلى تونس في شبابه ثم عاد إلى مصر هربا من الاحتلال الفرنساوي- والذي ظل تونسيا أو أجنبيا قلبا وقالبا، استخدمته حكومة الاحتلال الإنجليزي في مناصب مهمة في وزارة المعارف لمدة 30 سنة مكافئة على وقوفه بجوارها، وساهم في وضع مناهج التعليم، فيسهل بهذا معرفة من صاغ مناهج التعليم في مصر في تلك الأيام، ومن أين جاء تغريب المصريين عن أنفسهم وهويتهم الأصلية.

 أمر آخر مدهش جدا، أن اليهود والشوام المسيحيين دخلوا على خط الطرق الصوفية الشائع منذ الاحتلال المملوكي فيما يخص بث روح "الرضا بالظلم"، وكراهية أي مال أو منصب- ولو كان قليلا- حتى يموت أي دافع لمقاومة النهب الأجنبي لثروة البلد.

 فنجد الحاخام اليهودي مزراحي صاحب جريدة "الحقيقة" يكتب مقالات في 1890 ضد المال!: "وكم من الناس سفكوا الدماء حبا بالمال، وكم انصرفوا بعيدا عن الأحبة والأصدقاء طمعا فيه، ومحبو المال كالأسرى في أيدي الشياطين، ثم إن المال يحمل صاحبه على الظلم" وذلك "بعكس الفقير، فهذا بالكاد يسند رأسه عل مخدة النوم فيرقد مستريحا، أما ذاك (الغني) فيحيا الليل تائها في بيداء الأفكار"، ولم يخبر الكاتب اليهودي القراء هل  هو وبنو ملته تنازلوا عن أطنان المال والذهب التي جمعوها في مصر أم لا؛ ليصبح "مرتاح البال".

 بالمثل فعلت صحيفة "المقطم" فتقول: "فالقنوع من ربَّى نفسه على الرضا والسرور، فيرى البهجة والحبور في نور الشمس وضياء القمر وتلألؤ الكواكب"([16]).وليسرح المصريون مع الكواكب بعيدا عن سبب الكدر والفقر الأساسي وهو الاحتلال وأعوانه.

___________________

(انتهى الجزء الثاني، ونتابع في الجزء الثالث كيف استخدم الإنجليز الصحفيين الشوام ومن جنسيات أخرى في خطته لإفساد المصريين، وتطفيش ونفي الصحفيين المصريين المخلصين، بل وكل مقاومة حقيقية ترفع راية "مصر للمصريين")

المقالة منقولة من كتاب "نكبة توطين الهكسوس- النكبة المصرية"، ج 1، بقلم إفتكار البنداري السيد، تحميل الكتاب من:

هنا أو هنا

مقالات ذات صلة:

- دور المرتزقة الشوام في الحرب على "مصر للمصريين" أيام الاحتلال الإنجليزي- العلوي (1)

- قرطسة الشعب العظيم.. محطات مؤلمة في تاريخ العلاقات المصرية- السورية (1839-2020)

- جمال عبد الناصر عن "الوحدة" مع سوريا: كانت أكبر غلطة، ومصر ليست سوريا (ج1)

- جمال عبد الناصر عن "الوحدة" مع دمشق: الأحزاب والجيش السوري أرادوا استغلالنا (وثائق) ج 2

 _________________

بقلم : إفتكار السيد (نفرتاري أحمس)


المراجع:

([1])- الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، سامي عزيز، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1968، ص 253 و257

([2])- نفس المرجع، ص 69- 70

*** قارن بين هذا الحال وبين شكوى فنانين ومخرجين ومؤلفين في الدراما والسينما حاليا من غلق الأبواب في وجوههم في تقديم فن مصري يحمي القيم والكبرياء المصريين، في حين الأبواب مفتوحة على آخرها أمام شركات إنتاج أجنبية أو محلية مشبوهة وفنانين وافدين يقدمون أسوأ أنواع الفن، ويصورون المصريين على أنهم هلافيت وبلطجية ودواعر، ويبعدهم كل البعد عن قضاياهم الحقيقية.. والتاريخ للغفلان دواير.

([3])- انظر المرجع السابق، ص 141، وقصيدة "غادة اليابان" في ديوان حافظ إبراهيم، مرجع سابق، ص 321

([4])- الصحافة المصرية ومواقفها من الاحتلال الإنجليزي، سامي عزيز، ص 135- 136

([5])- جريدة المحروسة..صفحات من تاريخ مصر السياسي والأدبي، تحقيق بجريدة الشرق الأوسط، العدد رقم 14650، بتاريخ 7- 1- 2019

([6])- الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، مرجع سابق، ص 137

([7])- نفس المرجع، ص 136

([8])- المرجع السابق نقلا عن جولة في "الأهرام"، "المقتطف"، "المحروسة"، ""الوطن"، وغيرها

([9])- نفس المرجع، ص 75- 79 و184

([10])- المرجع السابق، ص 116- 121

([11])- الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، مرجع سابق، ص 243

([12])- نفس المرجع، ص 225

([13])- مستقبل الثقافة في مصر، د. طه حسين، ط2، دار المعارف، القاهرة، ص 16- 18 و34

([14])- الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، مرجع سابق ، ص 125- 126

([15])- نفس المرجع، ص 132- 138

([16])- نفس المرجع، ص 139- 140

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Legacy Version