التاريخ الميلادي

الاثنين، 24 أغسطس 2020

دور المرتزقة الشوام في الحرب على "مصر للمصريين" أيام الاحتلال الإنجليزي- العلوي (ج1)

 لا يستطيع احتلال عسكري- أيا كانت قوة جيوشه- أن يحتل بلد ويكتفها ويسيطر عليها وقتا طويلا إلا إذا استعان بجاليات ومستوطنين أجانب، يجعلهم حاجزا بينه وبين أهل البلد، ويوكل إليهم مهام خنق هذا الشعب، وتضليله، وتغيير هويته، واستنزافه لصالح الاحتلال، بل وأن يكون ذراعه اليمنى في قمع أي ثورة شعبية، والمقابل حصول هذه الجاليات على امتيازات تجعلها طبقة عليا فوق أهل البلد، فتسعى بكل قوتها لمنع عودة البلد لأهلها، حتى لا تفقد امتيازاتها، وإحساسها بالسيادة والتفوق السهل.

صحف الشوام عملاء الإنجليز في مصر
صحف الشوام عملاء الإنجليز في مصر بعد ثورة 1881



 

فمثلا استعان الإسكندر المقدوني وبعده الاحتلال البطلمي- إلى جانب الجالية الإغريقية- بجاليات يهودية وكارية وفينيقية وغيرها، واستعان الاحتلال الروماني بالإغريق واليهود والفينيقيين والعربان وغيرها،  والاحتلال العربي استعان- إلى جانب الجالية العربية- بمن بقي من الإغريق والرومان في مصر واليهود والفرس والترك، والاحتلال العبيدي (الفاطميين) استعانوا بالمغاربة واليهود والفرس والعرب والشوام والأرمن والسودانيين (وكلمة سودانيين وقتها تشمل كل من هم جنوب أسوان سوا السودانيين الحاليين أو أحباش إلخ مما كانوا يُجلبون كعبيد ومرتزقة).

والاحتلال الأيوبي وبعده المملوكي استعان  بالترك والشركس والكرد والعربان والشوام والمغاربة (والمغاربة هنا كانت تشمل كل بلاد شمال أفريقيا فيما يلي مصر من ناحية الغرب) والفرس والسودانيين، والاحتلال العثمانلي استعان بكل ما سبق، واستعان الاحتلال الفرنساوي بفرنسيس وأروام ومغاربة وشوام ويهود ومماليك وترك، واستعان الاحتلال العلوي بكل ما سبق مع الأرناؤوط والأوروبيين من يونانيين وأرمن وإيطاليين وفرنسيس وإنجليز، أما الإنجليز فاستعانوا بكل ما سبق إضافة لهنود وأستراليين.

ولكل احتلال جالياته المفضلة التي يضعها فوق رأس بقية الجاليات، أو تكون الأكثر ولاء له وأكثر طاعة لأوامره، وفيما يخص الاحتلال الإنجليزي فإن الشوام واليهود واليونانيين والأرمن كانوا هم- بعد الجالية الإنجليزية بالطبع التي كانت تعتبر نفسها السيدة الأولى للبلد- الأكثر ولاء وأكثر سهولة في تكليفهم بالأوامر وتنفيذها لتعودهم على العيش تحت كنف دول أجنبية تحركهم، ولتعودهم على الهجرة والاستيطان في الخارج والعمل لصالح من يعطيهم امتيازات أكثر.

وفي بعض الأحيان أعطى الاحتلال الإنجليزي- خصوصا في أيام اللورد كرومر مندوب الاحتلال- مساحة نفوذ أكبر للشوام خصوصا في المجال الثقافي وتشكيل الرأي العام المصري والهوية المصرية، لأن الشوام كانوا الأكثر قدرة على التواصل مع المصريين لعامل اللغة المشترك، والدين المشترك سوا إسلامي أو مسيحي.

▼▼▼ تاريخ الشام مع مصر

ويصح أن نعرف في الأول نبذة مختصرة سريعة عن تاريخ الشوام عموما في مصر، ومقصود بكلمة الشوام هنا كل سكان المنطقة التي يعرفها المصريون بـ"الشام" حاليا وتضم الآن فلسطين ولبنان سوريا والأردن.

عرفنا منهم في تاريخنا القديم من اشتهروا  هم أو مناطقهم بأسامي مثل "الرتنو"، و"العامو"، وظهروا "محبين" لمصر وقت قوتها، "غادرين" بمصر وقت ضعفها، ومحاولات قبائل الشام وشمال شرق الجزيرة العربية المجاورة لها للاعتداء على الحدود المصرية والتسلل لداخل مصر لغرف خيراتها لم تتوقف طوال التاريخ.

وفشلها أو نجاحها في هذا توقف على الصحوة المصرية من عدمها، فرأيناهم لما غفل حكام مصر نهاية الدولة القديمة تسللوا وعملوا في بعض المهن ونشروا الفتن حتى ساهموا في إسقاط الأسرة 6 ونشر الفوضى ( "إزفت" باللغة المصرية)، وطاردهم لخارج مصر حكام الأسرات 10 و11 و12، غير أنه في نهاية الأسرة 12 عادت الغفلة بأن تسللوا مع هجرات أخرى في شكل تجار وعمالة ومهاجرين بين بلدين "صديقين" استغلالا للعلاقات التجارية القوية بينهما وقتها، حتى ضعفت مصر مجددا في الأسرة 13 فاحتلوا أراضي بالوجه البحري.

وعشنا محنة مصر معهم باسم "الهكسوس"، وتكرر الأمر في الدولة الحديثة بطردهم ثم عودتهم باسم أنهم "أبناء البلاد المفتوحة" حتى سيطرت عائلة "إرسو" السورية على أمور البلاد ونشرت الفوضى في نهاية الأسرة 19 قبل أن يقضي عليها ست نخت والد رمسيس الثالث.

 واختفوا من المشهد حتى ظهروا بعد الأسرة 26 ضمن المرتزقة والتجار الذين استعانت بهم هذه الأسرة، واستمروا على هذا الحال أيام اليونان والرومان باسم كنعانيين وفينيقيين وآراميين، وخف تواجدهم أيام العرب لأن الكوفة ودمشق وبغداد أصبحوا العواصم الأكثر جاذبية في الفرص، ثم عادوا للهجرة إلى مصر أيام المماليك فارين من وجه التتار لما هزموهم، وأخذوا فرصتهم أكثر أيام العثمانلي فشاركوا في نهب مصر أرضا وتجارة وعقارات ومناصب في القضاء والأزهر.

وفي أيام محمد علي،  ظهر نوعية جديدة من الشوام، هي المتأوربون، أي من أتوا في زي أوروبي من خريجي مدارس الإرساليات التبشيرية ويتحدثون بألسنة أوروبا وعملوا لصالح القناصل الأوروبية خاصة فرنسا ثم بريطانيا  خلال الاستعانة بهم في مشاريع الوالي وأولاده.

 وإلى جانب التجارة، ركَّزوا على الثقافة والصحافة والمسرح والسينما ونشر المحافل الماسونية؛ فكانت الأنشطة التي برعوا فيها هي الأكثر شبها بأنشطة وتوجهات اليهود، ونشر جزء منهم فكرة القومية العربية، والجزء الآخر نشر فكر السلفيين والإخوان المسلمين[1].

وحام عدد الشوام أيام الاحتلال الإنجليزي والجالياتي حول 30 ألفا، يقل إلى 5 آلاف أو يصل إلى الـ 30 ألف حسب الظروف، متفرقين في تبعيتهم بين رعايا للحكومة المصرية أو للسلطنة العثمانية أو بريطانيا وفرنسا[2].

ومثل غيرهم، تراجع وجود الشوام في الاقتصاد والعدد بعد ثورة 1952 وقرارات التأميم، وإن بقي لهم وجود في السينما والغناء، مع الابتعاد- ظاهريا- عن التدخل في شئون البلاد؛ نظرا للقبضة القوية التي كانت للدولة المصرية، إلا أنه ظل لمثقفيهم وفنانيهم سيطرة في سحب مصر إلى الفكر العروبي ومغامراته الفاشلة كما سنرى، واقتنص بعضهم الجنسية المصرية باستيطانهم في مصر أيام الوحدة المشئومة مع سوريا، إضافة لمن اقتنصوا الجنسية بعون من قوانين اللورد كرومر أيام الاحتلال الإنجليزي.

▼▼▼أنواع انتماءات الصحفيين الشوام في مصر

  بداية يصح أن نتذكر أن صحف الشوام بدأت في مصر على طريق واحد، ثم تفرَّقت إلى ثلاث طرق، فبدأت متحدة في معاداتها لثورة 1881، ولمبدأ "مصر للمصريين" ومساندة للغزو الإنجليزي والخديوي توفيق، ثم بعد أن استتبَّ الأمر للإنجليز، وبدأت المنازعات بين إنجلترا وفرنسا والسلطنة العثمانلية حول مصر، تفرَّقت هذه الصحف- حسب ولاءاتها بين هذه الدول الثلاثة، وتسخر ما تكتبه لمصلحة تدعيم نفوذ هذه الدول، فكانت 3 أفرع:

1- الأول آداة تابعة لانجلترا تدعو للاحتلال الإنجليزي وتهاجم السلطان العثمانلي ومنها "المقطم"، "المقتطف"، "اللطائف"، "الاتحاد المصري".

 2- الثاني أداة تابعة لفرنسا تدعو للثقافة والنفوذ الفرنسي في مصر، وتؤيد أحيانا السلطان العثمانلي ومنها "المحروسة"، "مصر"، "التجارة"، "الأهرام".

 وفي بدايتها كانت تؤيد الاحتلال الإنجليزي نكاية في ثورة 1881، وبعد أن اطمأنت لخمود الثورة، بدأت تعمل لصالح فرنسا ونشر نفوذها الثقافي في مصر، وتهاجم الإنجليز لمصلحة باريس.

 3- الثالث سيظهر في وقت متأخر، وهو تابع للجماعات الساعية لإحياء الخلافة الإسلامية عقب خلع السلطان عبد الحميد الثاني 1908، ومنها "المنار" و"الفتح"، وسيكون لها دورها في تكوين تنظيم الإخوان المسلمين.

 والأفرع الثلاثة، مع محاربتهم لبعضهم، إلا أنهم- كما سبق القول- متفقون على كراهية ثورة 1881 ومحو "مصر للمصريين"، وتمزيق الوحدانية المصرية بانتماءات مسمومة لدول ومذاهب أجنبية وعبادة الأجنبي.

وفي هذه المقالة نتصفح هذه الصحف وهي في المرحلة التي اجتمعت فيها على تأييد الاحتلال الإنجليزي- العلوي ضد المصريين.

▼▼▼تزوير التاريخ بصحافة المستوطنين الأجانب

  سعى المحتلون لقطع أي لسان يكشف حقيقة ما جرى في ثورة 1881 التي قادها الزعيم أحمد عرابي ورفعت راية "مصر للمصريين" بعد مئات السنين من سقوطها تحت ركام الاحتلال، فبعد الحبس والقتل والنفي لمن شارك في الثورة منعوا الصحف الوطنية من الظهور؛ فصدر أمر من رئيس النظار رياض باشا بإلغاء جريدتي "الزمان" و"السفير" التابعتين للثورة بحجة أنها تهيج الخواطر؛ ولأن أصحابهما من "العصابة الثائرة"، أما صحيفة "الطائف" لعبد الله النديم فتوقفت بدخول النديم في المنفي الداخلي[3]، ولم يبق أمام الناس ولتسجيل التاريخ- أو ظنوا هذا- سوى الصحف صنيعة الأجانب مساندي الإنجليز وقتها، مثل "الأهرام"، و"المقطم"، و"المقتطف" و"الأعلام" التي أسسها ويديرها شوام ومغاربة، يقدمونها على أنها "صحف مصرية"، وأنهم هم "المصريون"، ويعبرون عن "الرأي المصري"، وركزت على اتهام عرابي بأنه السبب وراء الاحتلال الإنجليزي، وهي التهمة التي باتت تطارد عرابي حتى اليوم.

وخرجت "الأهرام" في 15 سبتمبر 1882 بعنوان : "البشرى الكبرى"، "الجيش الإنجليزي قبض على العاصي عرابي".

عدد "الأهرام" في 15-9-1882 تشمت في دماء الجيش المصري وترحب بالاحتلال الإنجليزي
  وفي 5 ديسمبر 1882 على لسان صاحبها بشارة تكلا تسخر من عرابي وأصحابه عند قرب نفيهم إلى سيلان بقوله: هؤلاء "سيؤلفون هناك مستعمرة مصرية عاصية"، أي يشمت في المصريين بأنهم سيؤلفون "مستعمرة مصرية عاصية"[4]، فرحا بأنه وأمثاله جاءوا لمصر "يؤلفون مستعمرة شامية لاهية"، ويتعاملون مع مصر كأنها بلدهم هم، لا بلد المطالبين بـ"مصر للمصريين".

  يقول الدكتور سامي عزيز بعد غوصه الطويل في الصحافة الصادرة في مصر عقب الاحتلال الإنجليزي، ولخصها في كتابه "الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي" إنه بعد أن تم الاحتلال 1882: "كثرت المحاولات التي تستهدف خلق مجتمع جديد تتغير فيه القيم المادية والمعنوية والمثل التي يسترشد بها الشعب، لا في الأوضاع السياسية فحسب، بل في كافة نواحي الحياة الأخرى".

 وباتت الصحافة أهم أدوات هذا التغيير، يواصل عزيز: "إذ استخدمها العهد الجديد لإحداث "تغيرا في العقائد المذهبية والسياسية، ومحاولة إحداث تغيرات متلاحقة في كيان الشعب، وهز مقوماته التي رسخت حتى تسهل زحزحتها، ثم دكه بعد ذلك لإرساء مقومات أخرى جديدة تتفق وأهداف الحاكم الجديد واتجاهاته"[5].. ألا يكونوا مصريين حقيقيين.

وصراحة تحدث كرومر[6] عن هذا في كتابه "مصر الحديثة"، وأنه لا يخشى منافسة أوروبا لبريطانيا في مصر، ولكن ما يهمه هو صنع الثقة بين بلاده وبين المصريين، فيقول: "كان على الإنجليز مهمة كبرى هي محاولة ربط مصر بهم، وصبغها بصبغتهم أو بالصبغة التي ترضي فيما بعد أن تكون البلاد جزءا لا يتجزأ من الدولة البريطانية، كل هذا دون إثارة إحدى الدول، ودون عنف، ودون اتخاذ إجراءات قاسية، ولكن بهدوء وصبر وطول أناة"[7].

 أول ما فعله الاحتلال الجديد في هذا الطريق هو إخراس الصحافة الوطنية بتصفيتها، وإنشاء عدد أكبر من الصحف غير المصرية، واستيراد وتشجيع الشوام واليهود والمغاربة والأرمن على إصدار صحف تعبر عن أفكار غير مصرية لإغراق السوق والأفكار بهم، فلم يكن في مصر وقتها عدد يكفي من المصريين المتشبعين بالأفكار الأجنبية المسمومة لينشروها، بل كان معظم الصحفيين المصريين ضد الاحتلال.

  واستدل سامي عزيز على هذا بعدد ونوعية الصحف التي تفجرت في زمن الاحتلال الإنجليزي: "وتؤيد هذه الفكرة كثرة عدد الصحف والمحلات التي تناولت كافة نواحي النشاط البشري فهناك صحف للزراعة وأخرى للطب وللعلوم والقضاء والسياسة والأدب، لكن "كل منها يحاول تعميق مفاهيم جديدة في أذهان المصريين لم يكن لهم بها عهد".

 وفي مقابل مطاردة الصحفيين المصريين- مثل عبد الله النديم- وكسر أقلامهم والاستيلاء على أملاكهم، فإن الصحف الشامية التي اضطرت لمغادرة مصر خلال ثورة 1881، عادت بعد موقعة التل الكبير، ليسيطروا على الساحة، وحصل أصحاب جريدة "الأهرام" على 180 ألف فرنك عن مطبعتهم التي راحت في حريق الإسكندرية في حين أن المطبعة لا تساوي أكثر من 500 فرنك.. انظر للفارق.

  كما حصل سليم النقاش على 40 ألف فرنك "تعويضا" عن احتراق المطبعة أيضا[8].

 وللاقتراب مما يحتويه قلب هذه الصحف وأصحابها لمصر نقترب مما حواه قلب مؤسس جريدة "الأهرام" بشارة تكلا، يقول عرابي في خطاب منه إلى محاميه الإنجليزي برودلي عن صور الإهانة التي تعمد الخديوي وأتباعه إرسالها للمصريين في المعتقل: "وبعد ساعة فُتح الباب، وإذا بمحرر جريدة الأهرام اسمه (بشار تقله) فظننت أنه جاء ليزورني ويهون علي المصاب لكونه كان معنا قبل الحرب، وكان يحلف بدينه وشرفه أنه كواحد منا، وأنه من دعاة الحرية، وكنا نجله ونكرمه، وإذا به أتى بوقاحته ليشمت بنا، وقال لي بنفور: عرابي أي شيء سويت، رأيت أي شيء صار لك، فعلمت أنه ذو وجهين، وأنه لا شرف له، فلم أجاوبه"[9].

بشار تكلا من عملاء الاحتلال الإنجليزي
شمت بشارة تكلا في دماء المصريين فوصفه عرابي بأنه "بلا شرف" 
  وعلم كرومر تأثير الصحافة على المصريين، سواء من يقرأون أو من تتلى عليهم ما في الصحف في العيلة أو القرية أو الحارة، فقال: "إن السواد الأعظم من المصريين من أعظم الناس تصديقا لما يقال".

  ويؤرخ الصحفي الشامي  فارس نمر (من صناع القومية العربية الأوائل) لصدور جريدة "المقطم" سنة 1889 بأنه حضر من الشام مع زميليه يعقوب صروف وشاهين مكاريوس (مؤسس محفل اللطائف الماسوني) تلبية لدعوة كبراء مصر (الإنجليز والخديو) الذين اقترحوا عليهم إصدار صحيفة في مصر، وأنه "استدعيت إلى الداخلية فوجدت اهتماما ملحوظا وعناية تامة، وطلبت اسم "المقطم" ولما سئلت عن السبب في اختيار هذا الاسم بالذات قلت لأنه الجبل الذي بنيت من حجارته الأهرام الثلاثة"[10].

فهل كان احتفاؤه ببناء الأهرام أم حلما بهدم الفلاح الذي بنى الأهرام؟

 وهنا ملامح سريعة للمجالات التي نخر بها الاحتلال في عضم ونخاع المصريين، وهدم المدرسة المصرية الكبرى (ماعت)، وإدخال الفلاحين- لأول مرة- مدرسة المسيخ الدجال، ووسائله في هذا: الصحافة، المدارس، السينما، الأحزاب، التيارات والمذاهب الأجنبية، الدمج بالجاليات الأجنبية.

  وبتعبير سامي عزيز فإنه "يعتبر إصدار المقطم الحلقة الثالثة من حلقات إحكام الحصار حول الرأي العام في مصر؛ إذ كان أصحابه الثلاثة يصدرون مجلة "المقتطف" العلمية في مصر منذ 1885، ثم أصدر شاهين مكاريوس مجلة "اللطائف" الأدبية الاتجاه عام 1886، ثم صدر "المقطم" الذي اختص بالنواحي السياسية"، وجميعها تدعو لمحبة الاحتلال والفرنجة بين المصريين، ومحاربة مبدأ مصر للمصريين.

"المقطم" من صحف حصار وتضليل الرأي العام المصري
   وفي أول عدد لها عقب موقعة التل الكبير خرجت "المقتطف" لترسل تهنئة في افتتاحية عدد نوفمبر 1882 على "خمود نيران الثورة المصرية، ورجوع ماء مصر إلى مجاريها، وانكساف شمس باغيها، ولا عجب أن حدا إليها حادي العمل وأوى إليها طائر السلام".

 وعن سبب اختيار هؤلاء الشوام الثلاثة، وغيرهم من شوام جاءوا قبلهم أو بعدهم وسيطروا على الصحافة في مصر يقول عزيز "وقد نشأ أصحاب المقطم في أكبر مدرسة غربية تأسست في الشرق، وهي الكلية الأمريكية في بيروت، وعرفوا التمدين العصري وبرعا في العلوم الجديدة، وقد اقترن فارس نمر في 1888 بابنة قنصل إنجلترا السابق في الأسكندرية، ثم سافر إلى لندن واجتمع فيها بكبار السياسيين، ولا غرابة إذن في أن يصف نمر وجود الإنجليز في مصر بأنه "كان أكبر نعمة، وسوف يستمر كذلك لهذا القطر"[11].

 وقالت عنهم صحيفة "الأستاذ" التي أصدرها الزعيم عبد الله النديم بعد رجوعه من المنفى الثاني إن الصحفيين الشوام الثلاثة: "التزموا في جريدتهم اليومية تنفير الأمة، وتحسين الاعتراف بسلطة الغير"، أي قبول الاحتلال والتخلص من الحمية والغيرة الوطنية.

 ولا يجد كرومر حرجا في أن يصف "المقطم" بأنها "موالية للإنجليز"، كما قال مارتن هارتمان الذي أرَّخ هذه الفترة في كتابه "الصحافة العربية في مصر" إن الإنجليز يدفعون مبلغا ضخما من المال لـ"المقطم"، ويفسر هذا بقوله "فهو لسان حالهم، ويحاول الإنجليز استخدامه في مصر كوسيلة لإفساد الرأي العام، فكان أصحابه أكبر المدافعين عن مصالح إنجلترا، ولا شك في أنهم كانوا رجال أعمال من الطراز الأول".

 وتدفق التمويل على أصحاب "المقطم" من الخزينة المصرية- جيوب الفلاحين- من أوسع أبوابها، فاختارت السلطات الحاكمة مطبعة المقطم لتطبع مطبوعاتها الحكومية بدلا من المطبعة الأهلية، وعلقت صحيفة "البسفور إجبسيان" الصادرة في مصر بالفرنسية: "وهكذا اكتشفت طريقة جديدة على حساب مصر لزيادة مكافأة تلك الصحيفة العربية التي تعمل جاهرة لخدمة الإنجليز".

  كذلك علقت صحيفة "الفلاح" بأن وزارة الداخلية تطبع في مطبعة "المقطم" جرنال "وقائع البوليس" بمبلغ 500 جنية في السنة، في حين أنه لو طبع في مطبعة أخرى لم يكلف أكثر من 50 جنيها، كذلك اختارت حكومة الاحتلال الصحيفة الشامية لطبع ما يخص المحاكم، وتحدث كرومر عن مصادر أخرى للتمويل حين أشاد بأن "المقطم" تطبع تقاريره السنوية باللغة الإنجليزية عن أحوال مصر وتترجمها للعربية والفرنسية وتوزعها على المشتركين.

 وهكذا تتعدد أشكال تمويل الصحفيين الشوام بمبالغ مهولة ولكن باسم "القانون"، وتسليمهم السيطرة على مهنة التحكم في العقل المصري (الصحافة وبعدها المسرح).

 ولكي تصل الصحيفة إلى أكبر عدد في أقصى أرياف مصر، فإنه إضافة لكثرة مطبوعاتها والأعداد التي تطبعها، فإن إنجلترا خصصت لها مطبعة خاصة تصدرها في شكل يسهل طيه إلى طيات صغيرة يسهل حملها في جيوب العمد ومشايخ البلاد، حتى تسمت هذه المطبعة بـ"مطبعة حجم المقطم"، وأصبحت الصحيفة المناصرة للاحتلال توزع ضعف أو ثلاثة أمثال عدد نسخ صحيفة "المؤيد" المعادية للاحتلال على سبيل المثال[12].

▼▼▼ صحف المستوطنين الأجانب تنشر عبادة الاحتلال

 أما ما سجلته للتاريخ والأجيال المعاصرة لها والمقبلة- مقدمة نفسها على أنها مصرية وتتحدث بلسان المصريين- خاصة أن نادرا من الناس من يعرف حقيقة وجنسية من وراء الصحف، ويتصورون أن هذا هو "كلام المصريين المتعلمين المتنورين" فيقلدونهم.

 فبررت وقوفها مع الاحتلال بقولها: "لما نال مصر من خير على يديه"، وفي 1889 وما تلاها نشرت مقالات منها ما عنوانه "هل مصر في تقدم؟" لترد بأن مصر "تقدمت وتتقدم وهي الآن في تقدم لا ينكره إلا طامع بنا أو ذو رغبة، كيف لا، وهي رائعة في ظل خديويها ووزيرها، وآمنة بهمة أعوانها الإنجليز من كل طارق"، وعن تحسن الأحوال المالية قالت: "يطول بنا تعداد الفوائد الجمة التي أدخلت عليها".

  ودعت الصحيفة لزيادة الأجانب في القضاء المصري (وكانت ثورة 1881 تطالب بتمصيره): "كذلك تحسنت المحاكم الأهلية، ولكنها تحتاج إلى زيادة التدقيق في انتقاء القضاة، ولا بد من زيادة الإنجليز عما هم عليه الآن".

  كذلك قالت فيما يخص التعليم: "والضرورة تقتضي إبقاء زمام التعليم بأيدي الأساتذة الأوروبيين"، وفي 1890 و1891 وصفت ثورة مصر بأنها "البلاء الذي نزل بالبلاد في عام 1882 وكيف صال شيطان الفوضى"، مقدمة الشكر للإنجليز لأن يدهم "أرجعت المياه إلى مجاريها، وشيدوا دعائم الحضارة، فهل نُلام إذا شكرناهم وفاء للدين الجميل"[13].

 وبالطبع لم يكن هناك جميل للاحتلال إلا على هذه الصحف وأصحابها هكسوس العصر.

 وفي 17 أبريل 1890 نشرت مقالا وصفه سامي عزيز بأنه "الأشد قسوة على الشعور الوطني"، حول مطالب المصريين بجلاء الإنجليز، أنكر فيه أصحاب "المقطم" (صناع القومية العربية)، حق المصريين في الحرية التامة، بل وسخرت الصحيفة من تاريخهم القديم: "العاقل يرى إتباع سياسة المحاسنة والموادعة، ثم ما هو الاستقلال الذي يبكونه والحرية التي يندبونها؟ ففي زمان أي الآباء والجدود تمتعوا باستقلال وحرية حرموهما الآن؟ ومتى كان زمام البلاد في قبضة يدهم وسلب الآن منهم؟ وأي شيء تغير عليهم، وما ضرهم إذا انفردت بالنفوذ دولة واحدة بينهم لا سبع عشرة دولة أجنبية، وأي خسارة خسروها بتقليد رجال من الإنجليز وظائف كان يتقلدها غيرهم من سائر الأجانب، وما ضرهم وجود فرقة من الجنود الإنجليزية لزيادة توطيد الأمن، ومشاورة دولة واحدة لا مرضاة سبع عشرة دولة، لهذا كله لا نزال نتبع سياسة المحاسنة ونحض على ترك سواها، فهي النافعة لهذا القطر والكافلة لتأييد الاستقلال".

 وبعد 4 أيام كتبت في صفحتها الأولى: "علمنا أن ما كتبناه تحت عنوان الاحتلال والاستقلال حلَّ لدى العقلاء محل القبول لمطابقته مصلحة البلاد وأحكام العقول"، أما حين رفض المصريون ما جاء فيها وصفتهم بـ"الأعداء" الذين حاولوا "كسر أقلامها"، وشكرت كرومر على دفاعه عن الصحيفة "فحال اللورد كرومر بينهم وبين ما يشتهون"[14].

هكذا من فروا من وجه الاحتلال العثمانلي في بلادهم بالشام، واخترعوا "القومية العربية"، ليختلقوا "قومية ومجدا" لبلدهم يحاربون به الاحتلال العثمانلي، جاءوا إلى مصر ليضللوا أهلها عن الفخر بحضارتهم وتاريخهم القديم كأنهم لم يحكموا أنفسهم في يوم من الأيام، وأن ينبذوا القومية المصرية الأصيلة، ويقنعوهم بـ"مزايا الاحتلال" الإنجليزي وضرورة القبول به، مدام الاحتلال ليس عثمانيا.

 وحاربت صحيفة "البال مال جازيت" (إنجليزية) مبدأ "مصر للمصريين" قائلة إنه "لا يصح أن تكون سياسة إنجلترا مبنية على اللائحة الوهمية وهي مصر للمصريين".

 ودخل على الخط صحفيين أرمن، فسخَّر ألكسان صرافيان صحيفة "الزمان" للدعوة للاحتلال، وعلق قسطاكي الحلبي في كتابه "تاريخ صدور الصحف": "إن الاحتلال راق للأرمني ألكسان فصدر جريدة الزمان، وصار يتغنى على صفحاتها بمزايا هذا الاحتلال، ويتمناه لعاصمة بني عثمان لراحة بني جنسه"[15].

 فاتخذ شوام وأرمن من مصر قاعدة لتصفية حسابات "بني جسنهم" مع العثمانلية، عبر محاربة العثمانلية باعتباره "احتلالا"، في حين يؤيدون إنجلترا باعتبارها "نعمة لمصر".

 وحتى صحيفة "البرهان" العثمانلية الصادرة في مصر حاربت "مصر للمصريين"، لما عادت للصدور، فكتبت في 1883 عن الدعوة إلى "المسالمة والتوفيق بين القلوب بلا نظير للجنسية والمعتقد، وقد جمعت إنجلترا من جنودها ما يكفي لردع العصاة الذين تمزقت قوتهم بعد 30 دقيقة"[16]، في سخرية من المصريين في موقعة التل الكبير.

 ويرصد الخديوي عباس حلمي الثاني في مذكراته- وكان في بداية حكمه رافضا للاحتلال الإنجليزي قبل أن يصبح مطيعا للإنجليز- أن "الصحافة المصرية كانت في تلك الفترة إلى حد ما في أيدي أجانب أو فريق من الأمة يؤثر إرضاء مطامحه على المحافظة على مصلحة مصر".

 ويعلق حينها الصحفي المصري سلامة موسى على كثرة الصحف الأجنبية في مصر بقوله: "وكان عارا علينا أن يوكل تكوين الرأي العام المصري إلى أقلام غير مصرية، غريبة عنا في المزاج، لا يشغل قلوب أصحابها ما يشغل قلوبنا من أماني وآمال، وكان علينا جميعا أن نقرأ كل يوم ما يكتبه لنا الصحفيون غير المصريين فيما يجب علينا وما لا يجب أن نتبعه في سياسة بلادنا من الخطط، وكانت الصحف والمجلات غير المصرية (الأجنبية) تنساب بين العامة كأنها الحيات السامة، وبها هذر وهذيان وسخف لتسميم العامة وإضعاف عقولها"[17]

جريدة المقتطف من عملاء الإنجليز في مصر
جريدة المقتطف من عملاء الاحتلال في مصر





انتهى الجزء الأول، ونستكمل دور المستوطنين الأجانب في صناعة الرأي العام وفق مصالح الاحتلال في الجزء الثاني بعون ربنا.

(ما سبق منقول عن كتاب نكبة توطين الهكسوس- النكبة المصرية ج1)

________

بقلم: إفتكار السيد (نفرتاري أحمس)

________

مقالات لها علاقة:




- محطات مؤلمة وخفية في تاريخ العلاقات المصرية السورية 1839- 2020
المراجع:

[1]- تفاصيل أكثر عن علاقة مصر بالشام في أوقات قوة مصر وضعفها في التاريخ القديم وحتى الاحتلال العلوي-الإنجليزي راجع كتاب "نكبة توطين الهكسوس- النكبة المصرية" ج1، إفتكار البنداري السيد (نفرتاري أحمس)، القاهرة، 2019.

[2]- بحسب إحصاءات السكان 1882، 1897، 1907، 1917، 1927، 1937، 1947 المودعة في دار الكتب وجهاز التعبئة والإحصاء.

([3])- انظر: مذكرات الزعيم أحمد عرابي، دراسة وتحقيق عبد المنعم إبراهيم الجميعي، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2005، ، ج2، ص 718، والهوامش

([4])- الأهرام ديوان الحياة المعاصرة، د, يونان لبيب رزق، ج 1، مركز تاريخ الأهرام، القاهرة، ص 223 و232

([5])- الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، سامي عزيز، دار الكتاب العربي، القاهرة، 1968، ص 5- 6

([6])- اسمه في الأساس إيفلن بيرنج وعائلته من أصل ألماني أسست بنكا في لندن مثل عائلة روتشيلد، ورغم ضعف كفاءته في بداية حياته إلا أنه بالواسطة والمحسوبية الخاصة بعائلته تدرج في وظائف دبلوماسية هامة في الهند، وانتقل لمصر ليعمل عضوا بصندوق الدين المشئوم، ثم تولي لمدة 23 سنة منصب القنصل أو المندوب البريطاني من 1883- 1906، وغادر مصر بضغط من الرأي العام لدوره في مدبحة دنشواي، أصدر كتابه "مصر الحديثة" يمجد فيه الاحتلال الإنجليزي ويزعم أنه صاحب "فضل" على مصر ويصف المصريين بـ"نكران الجميل"، لأنهم ثاروا في وجه الاحتلال (انظر: مقدمة د. أحمد زكريا الشلق لكتاب مصر الحديثة، اللورد كرومر، المركز القومي للترجمة، ط 1، ترجمة صبري محمد حسن، القاهرة، 2014، ص 19- 39)

([7])- الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، مرجع سابق، ص 224

([8])- المرجع السابق، ص70 نقلا عن صحيفتي "الفلاح" 1891، و"الوقائع المصرية"  1883

([9])- كيف دافعنا عن عرابي وصحبه، أ.م. برودلي، ترجمة وتحقيق عبد الحميد سليم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 142

([10])- الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، مرجع سابق، ص 96

([11])- المرجع السابق، ص 66 و97

([12])- المرجع السابق، ص 98- 99

([13])- نفس المرجع، ص 100-- 101

([14])- الصحافة المصرية وموقفها من الاحتلال الإنجليزي، سامي عزيز، ص 102- 103

([15])- نفس المرجع، ص 104- 105

([16])- نفس المرجع، ص 106

([17])- المرجع السابق، ص 111، نقلا عن كتاب سلامة موسى "الصحافة حرفة ورسالة"

0 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Legacy Version