أصاب ميناء الإسكندرية الإهمال في أيام الاحتلال العثمانلي، ووضعه محمد علي (الوالي العثمانلي) على خريطة مشروعات التحديث، فكان حفر "ترعة المحمودية" لتكون شريان تغذية الإسكندرية، ولكن السؤال هو كيف تمت هذه المشروعات، وبعرق ودم من، وسقطت خيراتها في حجر من؟ وهل عومل المصريون الذين نفذوها بالكرامة اللائقة، أما بنظام بالقهر والقتل.
المحمودية "ترعة الشهداء" في 1890 على جانبيها البيوت والأشجار طارحة من أجساد الفلاحين
(الصورة: مكتبة الكونجرس) |
وصف الجبرتي عملية جمع الناس بأن محمد علي: "أمر حكام الجهات بجمع الفلاحين، فكانوا يربطونهم قطارات بالحبال، وينزلون بهم المراكب، وتعطلوا عن زرع الدراوي ]الدرة[ الذي هو قوتهم، وقاسوا شدة بعد رجعوهم، ومات الكثير منهم من البرد والتعب، وكل من سقط أهالوا عليه تراب الحفر ولو فيه الروح".
أما من عاد لبلاده فتلقاه الخراب لطول غيابه عن
زرعه، ولم يرحمهم جامع الضرايب فـ"طولبوا بالمال وزيد عليه عن كل فدان حمل
بعير من التبن وكيلة قمح وكيلة فول وأخذ ما يبيعونه من الغلة بالثمن الدون"([1]).
ويشبه
هذا ما رواه ابن تغري بردي عن دفن أولاد البلد أحياء تحت التراب بعد سقوطهم من
التعب خلال العمل بالسخرة في بناء المباني الفخمة أيام الاحتلال المملوكي([2])،
فليس عند الباشا العثمانلي وقت لعلاجهم أو إرجاعهم لبلادهم يقضون اللحظات الأخيرة
وسط أهلهم ويدفنون بجانبهم.
وكأن هذا هو مكافئة المصريين على ما وجده محمد علي من
دعم في ثورة 1804 ضد منافسه الوالي العثمانلي خورشيد باشا وبسببها صار واليا، أو
في وقوفهم ضد المماليك ثم ضد حملة فريزر
سنة 1807، والتي لو تمكن بها الإنجليز من رقبة مصر لأعادوا حلفاءهم المماليك إلى
احتلالها.
الوالي العثمانلي محمد علي قامت في عصره مشاريع كبيرة، لكن قليل من يسأل كيف تمت، ولماذا تمت، وكان الهدف أن يسقط خيرها في حجر من؟ |
"وغطى الشط عظامهم"
وكشاهد عيان قال القنصل الفرنسي وقتها مانجان في
كتابه "تاريخ مصر في عهد محمد علي" إن "المهندس التركي الذي تم
تكليفه بإنجاز الترعة، بدأ عمله بدون اتباع قواعد الفن، إذ أنه لم يهتم بأي عمل
تحضيري، بل وجه طائفة من فلاحي الوجه البحري إلى هذه النقطة، بدون أن تستحضر
الآلات اللازمة لمثل هذه العملية، ولم يعمل مخازن للمؤن لتأمين معايشهم".
ويضيف أنه: كان هؤلاء الفلاحين مكرهين على أن
يحفروا الأرض بأيديهم، وأن يظلوا في الماء الذي يرشح من كل النواحي؛ فمات منهم
الكثير، وغطى الشط عظامهم[3].
وبحسب مانجان، مات من الفلاحين في حفر ترعة المحمودية
12 ألف في مدة 10 شهور فقط من قلة الزاد والمئونة أو من شدة التعب وسوء المعاملة
التي عاملهم بها عسكر الوالي لإجبارهم على العمل من الفجر حتى يرخي الظلام ستاره،
ولم يبذل الباشا جهدا في إعادتهم لأهلهم ليدفنوهم، فدفنوا تحت أكداس التراب الذي
كانوا يرفعونه من قاعها، واشتغل فيها 313 ألف فلاح([4])
في الفترة من 1807- 1820، وهو عدد ضخم مقارنة بعدد السكان وقتها.
أزهق الحفر 12 ألف روح مصرية تحت كرابيج عسكر الوالي |
وبمجرى أرواحهم المعذبة إلى السماء جرت مياهها من فرع رشيد في البحيرة إلى الإسكندرية، وأورقت من دماهم وعرقهم أشجار العمار الكبير الذي شهدت الإسكندرية
والبحيرة، بعد أن تسهَّل وصول الماء والملاحة إليها، وانتعش تجارها، وتسهل للأجانب نقل البضائع عبر النيل، لكن الفضل-
كالعادة- منسوب إلى الأجانب الذين تمتعوا هم بمعظم هذا العمار لا الفلاحين، فيقال
الآن إن الأجانب "عمروا" الإسكندرية.
ولكن المؤرخ عبد الرحمن الرافعي- كعادته- حفظ حق
الفلاحين والشهداء المنسيين في هذه المشروعات لما قال إن: "الفضل في ذلك
العمران يرجع لمن حفروا بأيديهم ترعة المحمودية، وبذلوا دمهم وأرواحهم حتى جرى ماء
النيل في تلك النواحي حاملا إلى الخلائق والناس والأراضي عناصر الخصب والحياة،
فإذا تأملت في كل ذلك فاذكر تضحيات الآباء والأجداد، ومبلغ ما بذلوه في سبيل
رفاهية الأجيال الأعقاب، وتمهل في سيرك قليلا، واستمطر الرحمة على من استشهد في
سبيل ذلك العمران([5])".
وتلى قول أبو العلاء المعري:
خف الوطأ ما أظن أديم الأرض
إلا من هذه الأجســـاد
وقبيح بنا وإن قدم العهد هــــــوان الآبـــــاء والأجـــــداد
وبعد
سنين طويلة قال الشاعر محمود عبد الظاهر([6]):
خف على الأرض دوسك على
جـــــــــدودك تـــدوس
الأرض وجنة عروســــــــة وطي علـى الأرض بوس
واسم
"ترعة المحمودية" على اسم محمود الثاني، سلطان الدولة العثمانلية وقتها،
وهنا جحود آخر بحق الفلاحين، أن ظلت الترعة تحمل نفس الاسم حتى بعد تحرر مصر من
الاحتلالين العثمانلي والعلوي، وبل وحتى في أيامنا هذه التي تشهد فيها مصر حربا شرسة مع تركيا.
وشهدت
الإسكندرية انتعاشة في التجارة والسكن في ذلك الوقت لم تشهدها منذ مئات السنين،
إلا أن أغنى أحياءها ومحلاتها وأكثر خيراتها كان لليونانيين والإيطاليين واليهود
والأتراك والشوام والمغاربة وغيرهم، في حين سكن أولاد هؤلاء الفلاحين في أفقر
أحياءها مع الفقراء الأجانب الذين لم يكونوا جمعوا الثروات بعد، وربما لم يُسمح للفلاحين
بالعيش فيها إلا للقيام بأعمال كان معظم الأجانب
لا يقبلون العمل فيها بعد أن كثر المال السهل في أيديهم لاحتكارهم الاستيراد
والتصدير، ولعمل الكثير منهم في الربا والتهريب والخمور والمخدرات[7].
ويصح
ملاحظة أن كلمة "فلاحين" هنا لا تعني فقط العاملين في الزراعة، أو أهالي
وجه بحري، ولكن المقصود بها في زمن الاحتلالات هو "أولاد البلد"
الحقيقيين مهما كانت مهنتهم، وفي أي مديرية كانوا من البحر للشلال.
قارعة جديدة على الشط
وسيتراص
الفلاحون مرة أخرى على ضفاف أوشط ترعة المحمودية في موقف آخر تشهد فيه الترعة على
النكران الأجنبي لجمايل الفلاحين على من استوطنوا بلادهم.
ففي
1882 فرَّ المصريون الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة في الإسكندرية منها مشتتين
كأنهم في يوم القيامة، لمَّا صبَّت مدافع الأسطول الإنجليزي الرابط في البحر
الأبيض نيرانها وقنابلها بلا رحمة على المدينة، تمهيدا للغزو الإنجليزي.
ملأت
القنابل وأصواتها الشيطانية التي تزلزل المدينة قلوب الناس بالهلع، فهم يسمعونها
لأول مرة، كأنها القارعة، والنساء والأطفال يصرخون، والمرضى وكبار السن والحوامل
يتساقطون، وتتعثر الأم التي تحمل رضيعها على كتفها، وذلك دون أن يوفر لهم أحد
وسائل المواصلات المناسبة، أو يهيأ لهم ملاجئ، يهتفون "الموت للإنجليز"،
بحسب ما نقله عنهم جون نينيه.
وأضاف أنه احتشد معظمهم في صحراء ضاحية الرمل
لمدة 6 أيام، يكتوون بحرارة رملها في عز شمس يونيو، ومنهم من تراصوا عند ترعة
المحمودية: "بعد ظهر يوم 13 توجهت إلى الإسكندرية في لانش بخاري بصحبة حراسة
لأن هيجان الشعب المعسكر بدون مأوى، وبدون خبز على ضفاف قناة المحمودية لا يبعث
على الطمأنينة، مذابح كثيرة ومشاجرات عديدة، لابد من أن تحدث".
أما عن المباني: "أجمل الشوارع وأجمل
القصور التي شيدها أكبر الماليين ]بيوت المال العالمية التي أغرته بالقروض الضخمة[ لإسماعيل باشا أصبحت أطلالا ينعبث منها الدخان"([8]).
حصل الأجانب على تعويضات ضخمة بعد ضرب الإسكندرية بديون سددها الفلاحين |
تراصوا
على ضفة "ترعة المحمودية" المدفون تحت ترابها آلاف من آبائهم خلال حفر الترعة أيام
محمد علي، والقصور التي بناها محمد علي وأبناؤه من أموالهم انهارت ترابا، لكي يأخذ
المحتل الجديد من عروقهم دماء وأموال جديدة، يسلمونها إلى شركات المقاولات
الأجنبية من جديد، يبنون بها قصورا جديدة بالإسكندرية باسم "إعادة
الإعمار".. هذه الكلمة التي ستتردد كثيرا في العالم فيما بعد كلما دمَّر
الاحتلال والمغتصبون مدينة ما- عمدا- ثم يسلم عقود "إعادة الإعمار"
لشركات تابعة له.. فلا تتوقف مصانع السلاح، ولا مصانع الأسمنت.
أما
الأجانب الأوروبيين فكانت السفن التابعة لبلادهم قد أجلتهم عن الإسكندرية قبل
الضرب، وكذلك هربت بقية الجنسيات تاركة أولاد البلد فقط هم من كانوا غفلانين عن
موعد الضرب.
ويصور ألكسندر شولش في كتابه "مصر
للمصريين..أزمة مصر الاجتماعية والسياسية 1878- 1882" الموقف فيقول: "غادر
الكثير من الأوروبيين مصر، واستعد الشوام والشراكسة والأتراك وبعض الأعيان للفرار،
ففر عبد السلام المويلحي "البطل القومي وميرابو مصر" ]وصف
من باب السخرية[ إلى سوريا، أما المصريون فقد بقوا في بلادهم([9]).
أين
كان الخديوي في هذه المحرقة؟
كان
في سفينة أعدها لها قائد الأسطول الإنجليزي سيمور، قضى أصعب الأيام في حماه، ثم
عاد إلى قصر رأس التين في حي الرمل، يقول نينيه إنه سمع هتافات من مهاجرين بؤساء
حين كان يمر توفيق أمامهم فيصيحون: "يعيش عرابي ويسقط توفيق"([10]).
وعند
رجوع الأهالي من الصحراء كانوا عبارة عن سيل متدفق من الإنسانية المعذبة، وكلهم
يرتدون ملابس بسيطة تعلوها القذارة والغبار، حفاة الأقدام شبه عراة، والنسوة يحملن
أطفالهن الرضع بين أذرعهن، بينما أطفالهن يسيرون متثاقلين وهم نصف عراة بجوارهن،
والرجال والنساء الشيوخ والشباب يحملون ما بقي لهم من متاع([11]).
وكالعادة،
لم يحصل أولاد البلد وقتها على محاكمات للأجانب الذين تسببوا في قتل أهاليهم
وتدمير منازلهم، في المقابل حصلت محاكمات لعرابي والمشاركين في ثورة 1881 بحجة
أنهم هم من تسببوا في قتل الأجانب، وفوق هذا حصل الأجانب في الإسكندرية على تعويضات
باهظة من عرق الفلاحين ليحصلوا بها على مساكن ومحلات جديدة في الإسكندرية.
يقول صالح جودت في كتابه "مصر في القرن التاسع عشر" الصادر 1904 إنه في ديسمبر 1885 في أيام توفيق (1879- 1892) استدانت الحكومة مبلغا باهظا جدا، هو 8 مليون جنيه ونصف مليون جنيه لدفع تعويضات الإسكندرية للأجانب، وسداد العجز الحاصل في إيرادات السنة الماضية([12]). وكل هذه الديون كان يدفعها الفلاحون، ثم يُنسب كل الفضل للأجانب.
*** (ما سبق من المقال منقول معظمه من كتاب "نكبة توطين الهكسوس" ج1 للكاتبة، ويمكن تحميله لمعلومات أكثر من هنا )
مشروع جديد على الشط.. لمن؟
وفي
السنين الأخيرة عاد الحديث عن ترعة المحمودية مرة أخرى، بعد أن أصابها الإهمال، في
مشروع اسمه "مشروع الأمل"، أو "محور المحمودية" للتطوير بدأته الهيئة الهندسية في القوات المسلحة سنة 2018، لأهداف حل أزمة
المرور هناك ولغرض عمل مشاريع استثمارية.
من تصميمات مشروع محور الأمل |
وبفضل ثورات التحرير المصرية، 1881، 1919، 1952، 2013، فإن إنجاز الفلاحين لهذا المشروع يقومون به وهم محفوظة كرامتهم، مصونة حقوقهم، متوفر لهم الرعاية اللازمة كي لا يسقطون موتى من الكرابيج والقهر كما كان أيام الوالي.
ولكن.. الدعاء كل الدعاء، أن يصب المشروع هذه المرة في مصلحة المصريين فقط، فقراءهم وأغنياءهم سويا، وألا تسقط مرة أخرى
كالثمرة الناضجة السهلة في حجر مستوطنين أجانب جدد، خصوصا مع عودة تدفق الأجانب من
كل جنس إلى الإسكندرية وما حولها، بل مصر كلها مرة أخرى، تحت اسم "لاجئين"،
"تجار"، "مستثمرين"، "عمالة"، وهي نفس المسميات
التي تدفق بها الأجانب إلى مصر في القرن 19، وتحولوا من مجرد هذه الأسماء إلى
اعتبار أنفسهم "أسياد" و"ملاك" البلد على رقاب أولاد البلد.
كما أن الدعاء كل الدعاء.. أن يتطهر المشروع من اسم "المحمودية" الخاص بالسلطان العثمانلي، وأن يحمل اسما يليق بهوية مصر وكفاح الفلاحين، ودماء الشهداء والمصابين الذين عادت لتنزف على يد العثمانلي.
بقلم: إفتكار السيد (نفرتاري أحمس)
____________________
- وصية حور.. وثيقة العهد لحماية مصر من الاحتلال كيف نسيانها؟ (أول نشيد وطني لمصر)
-ماذا قال المؤرخ كلوت بك عن دور توطين الأجانب في تدمير حضارة مصر واحتلالها؟
- عقيدة مصر القتالية و"الأقواس التسعة".. من هم أعداؤنا؟
المراجع:
[1]- عجايب الآثار في التراجم والأخبار، عبد
الرحمن الجبرتي، تحقيق عبد العزيز جمال الدين، الهيئة العامة لقصور الثقافة،
القاهرة، 2012، ج 7، ص 522 و524- 525، و614- 615، و618- 619، و 627
([2])- النجوم الزاهرة
في ملوك مصر والقاهرة، يوسف بن تغري بردي، تقديم وتعليق محمد حسين شمس الدين، ج 9،
ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1992، ص 94- 97
[3]- حياة على ورق.. شهادة قنصل فرنسا عن حفر ترعة
المحمودية، موقع البوابة نيوز، 24-8-2017
([6])- تتر مقدمة مسلسل "الناس ي كفر
عسكر"، كلمات محمود عبد الظاهر، ألحان محمد علي سليمان، غناء علي الحجار
[7]- راجع دور الجريمة وقوانين الامتيازات الأجنبية في
تكوين ثروات الأجانب في مصر وحمايتهم من العقاب في: الأجانب في مصر 1922- 1952
دراسة في تاريخ مصر الاجتماعي، محمود محمد سليمان، عين للدراسات والبحوث الإنسانية
والاجتماعية، ط 1، القاهرة، 1996
([8])- رسائل من مصر، جون نينيه، ترجمة.
فتحي العشري، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص 387- 388
([9])- مصر للمصريين
أزمة مصر الاجتماعية والسياسية 1878- 1882، ألكسندر شولش، ترجمة رءوف عباس حامد،
عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، ط 1، القاهرة، 1999، ص 272
0 التعليقات:
إرسال تعليق