التاريخ الميلادي

الجمعة، 17 يوليو 2020

عقيدة مصر القتالية و"الأقواس التسعة".. من أعداؤنا؟

إذا وزعت ورق اليوم (في سنة 2020) على المصريين المتعلمين، بما فيهم الرئيس ورئيس الوزراء والوزراء وقادة الجيش والداخلية والمخابرات والأكاديميين والإعلاميين وكافة صناع القرار والرأي العام، وطلبت منهم الإجابة على سؤال واحد مكتوب فيها وهو: من هم أعداء مصر؟ ماذا ستكون الإجابة؟
أقوام من الأقواس التسعة
أقوام أجنبية من ضمن "الأقواس التسعة" من نقوش معبد "هابو" بالأقصر

لن تكون إجابة.. بل إجابات، بل آلاف الإجابات، يختلف فيها تقييم "العدو" باختلاف انتماء المصري المعاصر نفسه، وتحديده لهوية مصر.

 فهل انتماءه لمصر وحدها لا قبلها شيء ولا بعدها شي؟

 أم ينتمي لشيء آخر خارج الحدود؟

شيء مثل بلد، قبيلة، تنظيم إقليمي أو عالمي، تيار سياسي أو ديني.

 وتختلف الإجابات باختلاف التيار الديني أو السياسي الذي قد يكون منتمي إليه (ليبرالي، شيوعي، اشتراكي، عروبي، "إخوان مسلمين"، جماعات دينية سلفية، عولمي، إلخ)، ونوعية التعليم (حكومي/ أجنبي)، وهل هو مصري خالص أم "خلاسي"[1]، أي هجين من أبوين أحدهما غير مصري، أو "خلاسي" الجنسية، أي مجنس (أجنبي حاصل على الجنسية المصرية) أو مصري يحمل جنسية أخرى بجانب الجنسية المصرية وولائه للجنسية الأجنبية أكثر من المصرية، إلخ.

 أو "خلاسي" الهوية، أي من هؤلاء الذين لهم أجداد قدموا إلى مصر في عصر سابق، ولكنهم لم يتخلصوا من الانتماء للبلد التي قدم منها هؤلاء الأجداد الأباعد، وما زالوا يحتفظون بالولاء لها بجانب أو قبل الولاء لمصر (مثل بواقي قبائل عربية أو بعض بواقي العثمانلية والمماليك والأرمن واليونان والمغاربة، إلخ)[2].

ما هذا كله؟!

إن هذا كله لم يكن موجودا في معظم تاريخ مصر بين المصريين، بل لم يكن بينهم أساسا كلمة "اختلاف الانتماء" فيما يخص تحديد من هو العدو؛ لأنه لم يكن بينهم أساسا "اختلاف انتماء" حول مصر؛ لأنه لم يكن هناك انتماء ديني أو سياسي أو في الدم أو التعليم إلخ بعيدا عن مصر، بل كله متمحور حول مصر (كيمة)، لأن المصريين كانوا مصريين (كيمتيو) وفقط، لا توصيف آخر يخترقهم، ومن يعش لأي سبب بينهم وهو يحمل انتماء لبلد وعرق أجنبي يُعتبر أجنبيا مهما طالت إقامته.

 ومن الشواهد على هذا في تاريخ مصر الطويل القديم هو ما عرفناه وقتها باسم "الأقواس التسعة"، وهي الاسم الدال على أعداء مصر، وجاء من أن كل عدو من أعداء مصر جسده الفنان المصري في شكل قوس، باعتبار أن الأعداء في أقدم الزمن كانوا يغيرون على مصر ويهاجمونها من وراء الحدود برمي السهام[3].

 والأقواس التسعة تعبر عن الأقوام التي اعتبرها الأجداد أنهم أعداء مصر، وهي ليست بالضرورة 9 بالتمام، بل تتغير بحسب إذا ما استجد أعداء.

والثابت أنها لا تُنسب لبلاد، بل لأقوام، خصوصا أن معظم من كانوا حول مصر هم أقوام وقبائل أكثر منها بلاد ثابتة، تتوزع ما بين أقوام وقبائل تأتي من الحدود الجنوبية (أي أقوام السودان)، وأقوام وقبائل تأتي من الحدود الغربية، وأقوام وقبائل تأتي من الحدود الشرقية.

الأقواس التسعة أعداء مصر
الأقواس التسعة تحت القدمين، وربما من هنا جاءت كلمة "فلان تحت جزمتي"  (متحف بتري في لندن)


♦♦♦
 
أقدم الإشارات للأقواس التسعة في الآثار

  وبحسب الدكتور علاء شاهين، الأستاذ بكلية الآثار جامعة القاهرة، فمن أقدم الإشارات إلى "الأقواس التسعة" في التصوير كان على مقمعة قتال الملك العقرب من ما قبل الإسرات (ٌقبل عصر مينا) في وجه قبلي، وكان عبارة عن صف من حملة ألوية المحافظات وستة منهم شايلين أشكال لطيور "الرخيت" معلقين فيهم كرمز إلى أسر أهل المكان.

 وفي عهد "جر"، من حكام الأسرة الأولى، نقش قرب وادي حلفا (قرب الشلال الثاني) والملك أمامه أسير نوبي يمسك بقوس.

الأقواس التسعة في زمن "جر"
نقش "جر" من بحث عادل شاهين عن الأقواس التسعة في مجلة المؤرخ المصري ص 59

 وفي الأسرة الثالثة تمثال زوسر المشهور، وهو يدوس بقدميه على الأقواس التسعة في أقدم تصوير من نوعه، وهو التصوير الذي استمر عليه حكام مصر بعده[4].

 وبتعريف الدكتور سليم حسن في موسوعته "موسعة مصر القديمة" فالأقواس التسعة يُرمز بها للأقوام الخاضعين، أو الذين قهرتهم مصر، وأشار أيضا إلى آثارهم على مقمعة العقرب ومسند قدمي زوسر[5].

 وتظهر هذه الأقوام باسم "حاونبو" (سكان جزر البحر المتوسط)، "تامحو" (آسيا)، "تا شمعو" (كوش)، "بجتيو-شو" (ربما كوش؟)، التحنو (ليبيا)، "الأونتيو سيتي" (النوبة)، "المونتيو-نو-ستت" (الآسيويون)، وأخيرا "سخت يام" (الواحات)[6].

 وفي قائمة أوردها سليم حسن ترجع لعهد أمنحتب الثالث: حاو-نبوت (أقوام بحر إيجة)، شات، تاشمع (الوجه القبلي)، سخت يام (الواحة)، تامحو (الوجه البحري)، بزت شو، تحنو (لوبيا)، أوتيو-سبتي (النوبة)، منتيو-نو-ستت (آسيا)[7].

الأقواس التسعة في شكل أشخاص
صندل عليه الأقواس التسعة وشخصان يمثلان أقوام آسيوية ونوبية/كوشية من مقبرة حوي الأسرة 18

  وحصل حيرة في تفسير المعنى الحقيقي للأقواس التسعة، لأنه في كثير من العصور كانت تضم الوجهين القبلي والبحري بما فيهم الواحات، وهؤلاء ليسوا أجانب ولا أعداء، فلماذا يوضعوا إلى جانب الأجانب والأعداء خارج الحدود؟

 وهناك تفسيرات لاحتمالات لإجابة محتاجة بحث أكثر، وهي أن المقصود بضم الوجهين القبلي والبحري للأقواس التسعة أن الأقواس التسعة في البداية لم يكن المقصود بها "الأعداء" بمعنى التقليدي المفهوم فقط، ولكن مقصود الأماكن التي يسيطر عليها حاكم مصر داخل أو خارج الحدود، أو تعبير عن سيطرته على العالم الدنيوي.

 وتفسير آخر بأن المقصود بالوجهين القبلي والبحري ليس السكان في العموم، ولكن مثيري الفتن والقلاقل، الذين يهددون بإفساد نظام حياة مصر، المعروف باسم "ماعت"، يعني العقيدة أو الشريعة المصرية والقواعد والأصول التي تحدد للمصريين نظام حياتهم في الحياة اليومية ونظام الحكم والأخلاق وعلاقتهم بالإله وبالبلاد الأخرى إلخ، ويعتقد أن المصريين من وضعها لهم هو "رع"، وكل من يهددها بنشر "إزفت"، أي الفوضى، ليقضي عليها ويسقط مصر من داخلها فهو عدو لـ"رع".

إلا أنه بغض النظر عن الأقوام المذكورين في القايمة، فالعبارة نفسها "الأقواس التسعة" استخدمها المصريين من الأسرة 12 على الأقل بمعنى الأجانب، كما تدل على ذلك جملة في قصة سنوحي: "إن الأقوام التسعة يأتون إليك في مصر حاملين الهدايا"، بحسب سليم حسن.

 ويضيف أنه بداية من الأسرة 19 أصبحت كلمة "تامحو" تعني الآسيويين وليس الوجه البحري، وكلمة "تاشمع" تعني النوبيين وليس الوجه القبلي، وأنه على ذلك فإن الإسم وإن لم يتغير كتابة، فإنه يمكن أن يتغير في المعنى[8]

وكلمة "النوبيين" هي كلمة فضفاضة نشرها علماء المصريات الأجانب للتعبير عن أقوام تأتي من ما يسمي الآن بالسودان لتهديد مصر، وأحيانا يستخدمون محلها كلمة "كوشي" التي تشمل أيضا الزنوج.

الآسيوي والكوشي/النوبي
أسيران يمثلان أقوام ما وراء الحدود الشرقية، والحدود الجنوبية ضمن الأقواس التسعة
مصنوعة في نهايات عصا توت عنخ آمون

  ويصح هنا الإشارة إلى أمر مهم يمكن أن يكون له صلة بالأقواس التسعة من حيث تحديد من هم أعداء مصر، وهو ما يجوز تسميته بـ"وصية حور"، أو "وثيقة العهد الكيمتية" الواردة في متون الأهرام، وفيها "حور" (حورس بالنطق اليوناني المحرف) يحذر مصر اللي وصفها بإنها عينه "عين حور"، من إنها تآمن للشعوب الأجنبية من كل الحدود، لأن ثقافتها وعقيدتها وأصلها مختلف عنهم، وأي اندماج بينها وبينهم هيرجع عليها بالضرر والخراب.

 فيقول حسب ترجمة جيمس هنري بريستد للنص في كتابه "تطور الفكر والدين في مصر القديمة":

التحية لك يا عين حور (مصر)

 التي زانها بكلتا ذراعيه

إنه لا يسمح لكِ (يا مصر) أن تصغي إلى أهل الغرب

إنه لا يسمح لكِ أن تصغي إلى أهل الشرق

إنه لا يسمح لكِ أن تصغي إلى أهل الجنوب

إنه لا يسمح لكِ أن تصغي إلى أهل الشمال

إنه لا يسمح لكِ أن تصغي إلى القاطنين بوسط الأرض

ولكن تصغين إلى حورس

إنه هو الذي زانك

إنه هو الذي شيدك

إنه هو الذي أسسك

إنك تفعلين لأجله كل شيء يقوله لكِ

إن الأبواب الموجودة عليكِ تستوي ثابتة مثل "إنموتف"

إنها لا تنفتح لسكان الغرب

إنها لا تنفتح لسكان الشرق

إنها لا تنفتح لسكان الشمال

إنها لا تنفتح لسكان الجنوب

إنها لا تنفتح للقاطنين وسط الأرض

إنها تنفتح لحورس

إنه هو الذي صنعها

إنه هو الذي أقامها

إنه هو الذي نجاها من كل سوء أوقعه "ست" عليها

إنه هو الذي أقام دعائمك([9])

فأمر الإله مصر أن تكون الأصول التي وضعها لها (ماعت) هي مرجعيتها، ولا تسلم نفسها للشعوب الكائنة وراء الحدود وثقافاتهم، فهو الأدرى بما يصلح لها؛ لأنه هو من أسسها ووضع قواعدها.

وفي ترجمة أخرى للنص في كتاب "متون الأهرام" لـ حسن صابر للوصية في الفصل 587:

التبجيل لكِ يا عين حور التي أعيدت بكلتا يديه

إنه لن يأذن لكِ بطاعة الغربيين

إنه لن يأذن لكِ بطاعة الشرقيين

إنه لن يأذن لكِ بطاعة الجنوبيين

إنه لن يأذن لكِ بطاعة الشماليين

إنه لن يأذن لكِ بطاعة هؤلاء الذين في وسط الأرض

بل سوف تطيعين حور

فإنه الذي أعادك، وهو الذي خلقك، والذي أعادك إلى أصلك[10]

وسألت الكثير من أساتذة الآثار عن معنى كلمة "وسط الأرض" الواردة في النص، ولم أحصل على إجابة بعد، وربما لها علاقة بذكر الوجهين القبلي والبحري في قوايم الأقواس التسعة، يعني أي ناس تحاول جوة البلد تدمير نظام "ماعت"، بنشر الإفساد والفوضى وتبديل قيم المصريين.

عين حور
عين حور "وجات" وعن يمينها "نخبة" رمز الوجه القبلي وعن شمالها "واجيت" رمز الوجه البحري (مقتنيات توت عنخ آمون بالمتحف المصري)

▼▼▼ حلقة النار

  وظل الأعداء يهاجمون مصر من الحدود الثلاث (الجنوبية والشرقية والغربية) في معظم تاريخها القديم، حتى هبَّت أمواج البحر الأبيض المتوسط بأقوام وقبائل تهدف لغزو مصر من الحدود الشمالية في عهد رمسيس الثالث في الأسرة 20 (تسموا بقبائل شعوب البحر لأنهم قادمون من جزر البحر الأبيض وما وراءها)، وبذلك استحكمت دائرة العداء حول مصر من الحدود الأربعة كحلقة من النار لم تنطفئ إلى اليوم.

الأقواس التسعة
من كتاب "نكبة توطين الهكسوس" ج1، ص 36

▼▼▼ من هم أعداء مصر؟

 ثبت تصنيف المصريين للأقوام الأجانب بأنهم أعداء منذ أقدم معارك نعرف أنهم خاضوها ضد الغزاة (مثل المعارك المنقوشة على سكين جبل العركي قبل عصر مينابين مصريين ومن يبدو أنهم قدموا من وراء الحدود الغربية) وحتى سقوط مصر في الاحتلالات المتوالية التي لم تنتهِ إلا في 1952.

سكينة جبل العركي الأقواس التسعة

النقوش على سكين العركي تظهر مصريين بشعور قصيرة وأعدائهم بشعور طويلة ويتضح فيها أن المعركة برية ونهرية أو بحرية مما يددل على شدتها (متحف اللوفر)

  فلماذا ظل الثبات المصري وقتها على تصنيف  الأعداء مهما تغير الحكام والأجيال؟

 ظل هذا التصنيف ثابت لأن الانتماء المصري ظل ثابتا طول تلك الأزمنة قبل الاحتلالات، وهو أنه لمصر وحدها، لا يشاركه فيها أي شعب آخر، وعلى هذا فإن العدو ليس هو الذي ينتمي إلى جنس معين، أو دين معين، أو لغة معينة فقط، ويُترك الحبل على الغارب للباقين.

 ولكن العدو في عقيدة مصر وجيشها وشعبها عموما هو "من طمع واعتدى"، أيا كان لونه أو جنسه أو دينه أو لغته أو بلده، وجار كان أم بعيد، مدام قد "طمع أواعتدى"[11].

الأقواس التسعة
أحد أشكال تصوير الأقواس التسعة، وهو لأقوام آسيويين على جدران معبد رمسيس الثاني في أبيدوس

 وكان الأجداد يرسمون أو ينقشون أو ينحتون رموز "الأقواس التسعة" إما في شكل أقواس، أو شكل رؤوس تدل على الجماعات المعادية، أو على صورة أشخاصهم ولكن في وضع ذليل كأسرى حرب، منحنيين أمام المصريين، أو مقيدة أيديهم خلف ظهورهم، أو في صورة منهزمين والحاكم المصري يحاربهم أو يؤدبهم بالمقمعة.

الأقواس التسعة في يد رمسيس الثاني
رمسيس الثاني في نقش يرمز لسيطرته على أقوام من "الأقواس التسعة" (المتحف المصري)

 وعادة ما يكون مكان هذه الرسومات إما على الصنادل، أو على مسند القدمين تحت كرسي العرش، أو في نهايات العصى، أو على واجهة المعابد، كمعابد الأقصر وأبو سمبل والكرنك وحاكم مصر يهزمهم، أو في مقابر الحكام وقادة الجيش الذين ينقشون صور المعارك التي خاضوها.

 وعلى هذا نرى خلال تتبع المعارك المصرية أن طوال أزمنة الحكم المصري القديم ظل الجيش يحارب على الحدود الثلاثة، ثم على الحدود الأربعة.

الأقواس التسعة تحت الرجلين

الأقواس التسعة في صورة أشخاص على مسند الرجلين من مجموعة توت عنخ آمون المتحف المصري

 ▲▲▲سياسة الحرب والسلام

 وفي نفس الوقت لم تكن العلاقة مع الجيران أو الأباعد علاقة حرب دائمة، فهم من القديم ساروا على درب "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، وتوقع اتفاقات سلام مثل الاتفاقات المشهورة بين سيتي الأول ورمسيس الثاني وبين الحيثيين.

 فإن اقتصرت الشعوب الأخرى في علاقتها مع مصر على التجارة والعلاقات السياسية الطبيعية كانت مصر نعم الصديق لهؤلاء.

 ولكن في الأغلب لم يكونوا هم نعم الصديق لها دائما؛ إذ يستغلون اطمئنانها إلى ما يظهرونه من سلام وصداقة للاستعداد للانقضاض على مصر، وهي في حالة استرخاء من جديد.. وما أبشعه حينها من هجوم، خاصة حين يأتيها من الداخل، على أيدي من فتحت لهم أبوابها من أبناء هذه البلاد للاستيطان تجارا ولاجئين ومهاجرين، حتى يتكتلوا ويتمكنوا، ثم ينقضوا، كما حصل من آسيويين وكوشيين في نهايات الأسرة 6 وآسيويين بعد الأسرة 13 وأسرى حرب ولاجئين من الشام ومن شعوب البحر وما وراء الحدود الغربية بعد الأسرة 20، أو كما فعل المستوطنون الإغريق واليهود في نهاية الأسرة 30 لما ساعدوا الإسكندر في احتلال مصر[12].

الهكسوس والأقواس التسعة
رسم حديث يجسد نقش في مقبرة خنوم حتب الثاني في مقابر بني حسن بالمنيا لآسيويين جاءوا لمصر في فترة سلام بين مصر وبلاد الشام، ويعتقد أثريون أنهم ضمن الهكسوس الذين احتلوا مصر فيما بعد


▼▼▼ في عصور الاحتلالات (كلهم احتلوا مصر)

 في عصور الاحتلال، الذي سقطت فيه مصر لأن أهلها خالفوا "وصية حور"، وسمحوا بتوطين هجرات أجنبية وأسرى الحرب، وائتمنوا الأجانب على هويتهم، لم يعد الكيمتيون (المصريون) يتمتعون بحقهم في رسم سياسة بلدهم وتحديد من هو عدوهم.

 فبخلاف أن أحد الأقواس التسعة يكون هو بالفعل الحاكم الأجنبي القابع بحد السيف على عرش مصر، فإنه هو الذي يحدد العدو، ويحددهم على أساس مصالحه الخاصة، ودينه وعرقيته وأطماعه التوسعية، لا على أساس مصلحة الكيمتيين، الذين أصبح الاحتلال يبعدهم من الأساس عن المشاركة في الجيش والمناصب والثروة وصناعة القرار، وركزهم في يد المحتلين والجاليات الأجنبية المتعاونة مع الاحتلال، وتُرك للمصريين أعمال الزراعة والبناء.

 ويصح هنا التركيز في نقطة مهمة، وهي أن جميع من حذر منهم الأجداد، احتلوا مصر فعلا، حتى من أبدوا لها الود والمهادنة، فما أن وجدوا فرصة عليها، والتمكين فيها، سوا بالاستيطان الأجنبي، أو بالغزو العسكري، إلا وانتهزوها، وانقضوا عليها من كل حدب وصوب، لم يفوت أحدهم- مهما كان قوي أو ضعيف- فرصة ليتمكن من مصر إلا واستغلها، وأذاق أهلها كل صنوف العذاب.

 فاحتلها بعد تفكيك جيشها واستبعاد أهلها الفلاحين من التجنيد، من الشمال الإغريق والرومان والإنجليز والفرنسيس، ومن الشرق العرب بأنواعهم والفرس والترك، ومن الجنوب الكوشيين، ومن الغرب العبيديين (الفاطميين) إلخ.

 إلا أن المصريين كانوا يعودون من فترة لأخرى ليعلنوا من هو عدوهم، كما ظهر في ثورات المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الجاثم على صدورهم، مثل الثورات ضد الآشوريين والفرس واليونانيين والرومان والعرب وحتى الاحتلال الإنجليزي.

▲▲▲ "مصر للمصريين".. رجوع "وصية حور"

  من أبرز أمارات استرداد- أو محاولة استرداد- المصريين لإرادتهم الحرة في تحديد أعدائهم، وفي حكم بلدهم، هو رفع راية "مصر للمصريين" من جديد في ثورة 1881 بزعامة أحمد عرابي وثورة 1919 بزعامة سعد زغلول.

عرابي ومصر للمصريين
مثلت وقفة عرابي والضباط الفلاحين في ساحة عابدين سنة 1881 في جانب والخديوي توفيق ممثل العثمانيين وبجانبه القناصل الأجانب في ناحية ثانية، وصيحة الثورة الشهيرة "مصر للمصريين" صورة تجسد حرفيا مصر أمام "الأقواس التسعة"، أو الخير والشر، "ماعت" و"إزفت"، الحرية والاحتلال

فهذا النداء الذي على في مصر وقتها، وارتج به عروق الفلاحين الملتاعين والمشتاقين لمجدهم القديم، معناه أنه ليس من حق أي أجنبي، أن يشارك المصريين في أرضهم، أو ثرواتهم، أو مناصبهم، أو يعتدي على هويتهم وثقافتهم إلخ.

 وبعد تحقق هذا الهدف لحد كبير بتحرير مصر من الاحتلال الإنجليزي والعلوي في ثورة 1952، رفعت الثورة في أولها شعار "القومية المصرية"، وصاغت عبارة تعتبر أيضا تلخيصا لعقيدة الأجداد الأصلية، ولصيحة التحرير في ثورات التحرير "مصر للمصريين"، وهي عبارة "نسالم من يسالمنا، ونعادي من يعادينا".

ولم تكن مجرد كلمة دبلوماسية، بل إن صدح الرئيس جمال عبد الناصر بها في 19 مايو 1955 في احتفال الكلية البحرية بتخريج فوج جديد من ضباط الأسطول، وفي عز شدة الضغوط الأوروبية والأمريكية على مصر لتنضم إلى "حلف بغداد" وتصبح تابعة لهم كان له وزنه، وهي إحياء للعقيدة الكيمتية (المصرية) الأصيلة، فنحن لا نطلب عداء أحد، ولكن إن طلبه أحد فإننا مستعدون لمواجهته بعداء مماثل، ونحن لا نطلب السلام ضعفا، ولكن لمن يسالمنا.

وقال وقتها: "نعادي من يعادينا ونسالم من يسالمنا"، و"لن نسمح لأي دولة أو مجموعة من الدول أن تجتمع وتضع خطة تسير بها أمورنا، أو تقرر فيها مصيرنا، أو تعتبرنا في منطقة نفوذها"[13].

"قوى الشر" = الأقواس التسعة

أما "قوى الشر"، الكلمة التي انتشرت وقتها في الخطب الرسمية عن أعداء مصر المحيطين بها من كل جانب، فكانت هي التعبير المصري البليغ الحديث لكلمة الأجداد "الأقواس التسعة"، ولكن لأن أكثر المصريين وقتها يجهلون كثير من مفردات وحضارة الأجداد، فخرج من العمق كلمة "قوى الشر" كتعبير بديل.

فمثلا، في خطبة بتاريخ 23- 2- 1953، قال عبد الناصر في شبين الكوم بمحافظة المنوفية: 

 "نعم، فلنثق فى أنفسنا وفى أمتنا، فإن مصر فى حالتى القوة والضعف أمة حرة، يجتمع عليها أعداؤها من كل جانب، ومع ذلك لا تخفض رأسها، ولا تكف عن دفع الأذى عن حياضها؛ فلقد تآمرت قوى الشر منذ القدم على العبث بكيان هذا الوطن وحضارته الخالدة"[14].

الغرق في تيار "القومية العربية"

إلا إنه منذ 1956 حصل امتداد للاحتلال الفكري الذي غزا مصر على يد صحفيين وأدباء من الشام مثل عبد الرحمن الكواكبي وساطع الحصري ومحمد علي الطاهر في النصف الأول من القرن 20، تحت اسم "القومية العربية" بحجة توحيد شعوب المنطقة ضد المحتلين.

 فإن كان في 1945 انساق حكام وأحزاب وراء هذا الغزو لعدة أسباب، وجرى تسمية مصر رسميا- لأول مرة- بأنها ضمن "الدول العربية"، وأصبحت عضوا فيما يسمى بـ"الجامعة العربية"، وألزمتها حكومة ذلك الوقت بخوض معارك غيرها، أو معارك غير مستعدة لها، مثل فخ حرب 1948، وإعلان ساسة ومثقفين أن قضايا العرب هي قضاياهم[15]، فإنه في 1956 جرى لأول مرة تسمية مصر بأنها "دولة عربية" في الدستور؛ تأثرا بحالة الشحن العاطفي التي أعقبت تضامن شعوب المنطقة مع مصر في العدوان الثلاثي، وفي 1958 وقعت مصر في فخ آخر هو الوحدة المشئومة والمصطنعة مع سوريا.

فاروق والقومية العربية
فاروق في زيارة للسعودية في الأربعينات بعد تبنيه للقومية العربية (الصورة موقع جريدة الفجر)

 ونتيجة ما حدث في 1945 و 1956 و 1958 صار محرما على المصري أن يعتبر ما صار يُسمى بالشعوب العربية عدوا له، حتى إن جاهر هذا العربي بالعداء، كما فعلت في بعض الأوقات في الخمسينات والستينات العراق، السعودية، سوريا، تونس، إلخ في مواقف مختلفة، لأنهم رسميا اعتبروا أنهم "أشقاء"، وأنه حتى إن ناصبت حكوماتهم العداء لمصر، فإن الشعوب العربية شقيقة ولا ذنب لها.

 وأصبح المصري ملزما بتقديم العون والدعم لهذه الشعوب بكل الأشكال، مهما كانت حكومات هذه الدول معادية لمصر مثل المسارعة لإعلان الدفاع عن سوريا في 1967 أمام التهديدات الإسرائيلية لها رغم الغدر السوري بمصر وقت فك الوحدة المشئومة، وطرد القوات المصرية من سوريا سنة 1961.

▼▼▼"تغشنا المرايات"

يقول سيد حجاب:

الشر شرق وغرب داخل في حوشنا

حوشو لريح شاردة تقشقش عشوشنا

حوشو شرارة طيش تشقق عروشنا

وتغشنا المرايات تشوش وشوشنا

وتهيل تراب على الهالة والهيلمان

الغش طرطش رش على الوش بوية

ما دريتشي مين بلياتشو أو مين رزين

شاب الزمان وشقيقي مش شكل أبويا

شاهت وشوشنا توهنا بين شين وزين

ولسة ياما وياما هنشوف كمان[16]

فبداية من القرن 19 تزاحمت المرايات المغشوشة حوالين المصريين- خصوصا المصريين المتعلمين- لتقدم لهم صورة غير حقيقية عن أنفسهم وهويتهم، وتسحبهم من طريق "مصر للمصريين" الذين أطلقته ثورة 1881، وتتوههم في ألف طريق وطريق من طرق سكة الندامة.

 فليست "القومية العربية" وحدها التي حجبت الطريق الصحيح عن أعين المصريين، ولكن العديد من التيارات التي اجتاحت العالم- ولم تستهدف مصر وحدها- أعمت كثير من المصريين عن حقيقة هويتهم، وعن من هم أعدائهم، فصارو لأعداء مصر إخوانا وحلفاء!

فمثلا..

▼▼▼مراية الشيوعية (واليسار)

تسللت بواكيرها إلى مصر تحت إبط العمال التابعين لتيار "السان سيمونيين" اللذين جلبهم محمد علي من فرنسا لغرض بعض المشروعات، وتبلورت أكثر في أول القرن 20 على جوزيف روزنتال، يهودي من روسيا هبط على مصر سنة 1898 في شكل لاجئ، وأسس مع حسني العرابي الحزب الشيوعي 1923 مستغلا معاناة العمال المصريين من الإقطاعيين والاحتلال الإنجليزي، وأضاف اليهودي القادمة عائلته من إيطاليا هنري كورييل حركات شيوعية أكثر انتشارا مثل "حدتو" في الأربعينات.

 ويقوم فكر معظم هذه الحركات على أن الشيوعي أخو الشيوعي، أو كما يسمونها "رفيق"، ولو كان الشيوعي أجنبي، فهو الأقرب من المصري الغير شيوعي، وبعضها ينتمي إلى ما يسمى بـ"الكومنترن" الذي يضم كل الأحزاب الشيوعية في العالم، وحلمه تحقيق الدولة الاشتراكية العالمية.

تصدت الحكومة القائمة قبل 1952 وحكومة الثورة بعدها لوقف المد الشيوعي، ثم عاد في السنين الأخيرة في شكل حركات وأحزاب مثل "الاشتراكيون الثوريون"، وغيرها من حركات وشخصيات يسارية معادية لنظام الحكم، ولا تعترف بالحدود الوطنية[17].

هنري كورييل الأقواس التسعة
هنري كورييل، جاءت أسرته اليهودية من إيطاليا للاستيطان في مصر أول القرن 20، وكرّس حياته لنشر الشيوعية في مصر


▼▼▼مراية الخلافة الإسلامية

 كانت السلطنة العثمانلية تتباهى بأنها تحكم الشعوب المسيطرة عليها بما كان يسمى وقتها بـ"حق الفتح"، أي بالسيف، وكذلك كان كل دول الخلافة الإسلامية قبلها.

 إلا أنه في عصر السلطان عبد الحميد الثاني (تولى 1876)، وكان يعلو فيه روح القومية المصرية في مصر، والقومية العربية في الشام، وقوميات أخرى في البلاد التي يسيطر عليها العثمانلية في أماكن أخرى، ومع التهديدات الروسية والإنجليزية له وضعف وتشقق دولته، بحث عن وسيلة يضمن بها ولاء المسلمين من الصين والهند حتى أفريقيا؛ ليساعدوه على مقاومة السقوط.

 فتفتق ذهنه عما تسمى بـ"الجامعة الإسلامية"، وهي إشاعة أن التضامن بين المسلمين مطلوب بـ"حق الأخوة"، لحماية الدولة الإسلامية من مؤامرات "الكفار".

وهاجم انتشار القومية المصرية، فقال: "النجليز أفسدوا عقول المصريين"، وأن بعض المصريين "أصبح يقدم القومية على الدين، ويظن أنه يمكن مزج حضارة مصر بالحضارة الأوروبية، وإنكلترا تهدف من نشر الفكر القومي في البلاد الإسلامية إلى هز عرشي... وأن الفكر القومي قد تقدم تقدما ملموسا في مصر. والمثقفون المصريون أصحبوا من حيث لا يشعرون ألعوبة في يد الإنكليز، إنهم بذلك يهزون اقتدار الدولة الإسلامية ويهزون معها اعتبار الخلافة"[18].

 وبعد سقوط عبد الحميد وتكسر الخلافة العثمانلية انتعشت دعوة بديلة خرجت من جزيرة العرب اشتهرت باسم "الدعوة السلفية"، أو "الدعوة الوهابية"، ولها مريدين ومسوقين في مصر، أكثرهم مستوطنين أجانب مثل الشوام رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، وانتشرت جمعيات سلفية مثل جمعيات "الجمعية الشرعية" 1912، "السنة المحمدية" 1926، و"الشبان المسلمين" 1927 تنشر معاني "الإخوة الإسلامية"، وتحارب القومية المصرية، ومبدأها أن المسلم التركي أو السعودي أو الماليزي أو الأندونيسي أو العراقي أو الشامي إلخ أقرب للمصري المسلم من المصري المسيحي، بل وأن المسلم السلفي أو الوهابي أقربله من المصري المسلم المحافظ على القومية المصرية.

 وتولت بشكل أنشط نشر هذا الفكر جمعية الإخوان المسلمين المتولدة على يد حسن البنا (تلميذ رشيد رضا ومحب الدين الخطيب) عن الجمعيات السابقة سنة 1928[19].

 وبذلك صار يُعلم المصري أن ما يوصف بالبلاد الإسلامية لا يمكن أن يكونوا أعداء له، ولا يتوقعوا منهم أي شر، وأن يفتحوا مصر لاستيطانهم أو يغرفوا من ثرواتها ويعطون لهم بغير حساب، كما حصل في نزح هذه الجمعيات من خزينة الدولة باسم إعانة المسلمين في البلقان (حرب البلقان 1912) وإعانة المسلمين في ليبيا (الحرب الإيطالية التركية الطرابلسية 1912) وإعانة المسلمين في سوريا (في ثورة سوريا 1925) إلخ حتى وصلنا إلى إعانة المسلمين في البوسنة والهرسك والشيشان وأفغانستان والصومال والصين،وذلك سواء كان بإذن من الحكومة، أو بمخالفة سياستها ومصلحة البلاد.

 كما أن هناك من الجماعات المعروفة بالجماعات السلفية أو الإسلامية ما يكن ولاء للمملكة العربية السعودية أكثر من الولاء لمصر، بحجة أنها بلد الإسلام أو البلد الذي نزل فيه الإسلام، ومستمرين على هذا الولاء حتى حين تكون في حالة عداء مع مصر مثلما كان الحال عليه في الستينات.

رشيد رضا الأقواس التسعة
رشيد رضا، جاء للاستيطان في مصر من الشام وكرَّس حياته لنشر الفكر السلفي والإخواني، وهو مع الشامي محب الدين الخطيب من أشهر أساتذة حسن البنا

▼▼▼مراية "أبناء القارة الواحدة"

 مفهوم القارات واشتراك شعوب في قارة واحدة هو مفهوم ظهر مع فورة نشاط التجارة البحرية وجولات الرحالة والمستكشفين وحاجتهم لرسوم الخرائط وقت هيمنة الملاحة الإغريقية والفينيقية على البحار وطرق التجارة وتمددهم بين القارات في النصف الثاني من الألفية الأولى قبل الميلاد.

 أما في الأزمنة السابقة فلم يكن وجود شعوب فيما تسمى بعد ذلك بقارة أفريقيا يعني شيئا لأي شعب منها مع بقية الشعوب، ووجود شعوب فيما تسمى بعد ذلك بقارة آسيا لا يعني شيئا لأي شعب منها في موقفه من بقية الشعوب، فلا يترتب عليه لا عداوة أو إخوة في حد ذاتها، أو اشتراك في هوية واحدة.

 وفيما يخص مصر وأفريقيا مثلا، فالبنسبة لنا في التاريخ القديم كل ما هو غرب مصر اسمه "التحنو"، وفي مرحلة متأخرة وأيام الاحتلال الإغريقي تسمى بـ "الليبو" ثم "ليبيا" (وكلمة ليبيا أطلقها اليونانيين على كل ما هو غرب مصر، أي بلاد شمال أفريقيا حتى المحيط وأجزاء أخرى مما تسمى لاحقا بأفريقيا وليس فقط ليبيا الحالية)، وكانوا يصوروا على هيئة أشخاص بألوان فاتحة وبريشة فوق الرأس، وكل ما هو جنوب مصر اسمه "كوش"، ويصوروا بلون أسود وملامح زنجية في الشعر والوجه، وكلاهما ضمن "الأقواس التسعة"، وتتأرجح العلاقة معهم ما بين حرب وسلم.

كان السودانيين أول من أخذ لقب "أشقاء" مع مصر في أفريقيا، وذلك في أول القرن العشرين، خلال الصراع بين عيلة محمد علي وبعض الأحزاب في مصر من ناحية والإنجليز من ناحية حول تبعية السودان التي صارت "اسمية" لمصر و"فعلية" لإنجلترا باتفاقية السودان سنة 1899، فكانت هذه الأحزاب ترى أن تكون السودان "جزءً من مصر"، هو أفضل من أن تكون "تابعة" لمصر كما كانت أيام محمد علي وإسماعيل، أو ترتبط بها بعلاقة "احتلال"، وأن هذه العلاقة الجديدة ستساهم في جذب السودانيين بعيدا عن الرضا بالمحتل الإنجليزي، ومع ظهور تيار القومية العربية، قالوا الأشقاء السودانيين، وأخرجوهم من تصنيفة "الأتباع" أو"الأعداء"[20].

 وبعد ثورة 1952 وضع عبد الناصر أفريقيا ضمن "الدوائر الثلاثة" لتوسيع علاقات مصر ونفوذها وعمل شبكة معها على قاعدة "التعاون المشترك" ضد الكتلتين الشرقية السوفيتة والغربية الأوروبية-الأمريكية، فأخدت العلاقات مع أفريقيا طابع الاحترام والتقدير في حركات التحرير ضد الاحتلال الأوروبي، وأيضا ضد التسلل الإسرائيلي لأفريقيا الذي أشار له عبد الناصر في أحاديثه الصحفية، وشبه خرجت أفريقيا وقتها من دائرة "الأقواس التسعة".

 إلا إنه بعد تحرر كل أفريقيا من الاحتلال العسكري، ثم اتجاه العالم لنظام القطب الواحد بداية من الثمانينات، بدأت علاقات جديدة تترسم بين معظم الدول الأفريقية الحليفة لمصر وبين أمريكا، فرنسا، إيطاليا، الصين، تركيا، إسرائيل،روسيا، الخليج، إلخ، أساسها كثرة المال الذي يوزع في صورة استثمارات أو دعم نظم حاكمة، أو دعم مليشيات معارضة، إلخ، وتنسحب من دائرة التعاون مع مصر وتدخل في دائرة "التآمر"، وهو ما تجلى بالذات في موقف بعض الدول الأفريقية التي سارعت لتجميد عضوية مصر في الاتحاد الأفريقي بعد ثورة 30 يونيو 2013، وفي ملف سد النهضة الأثيوبي، وفوق هذا اهتمام جماعات أفريقية بنسب حضارة مصر للزنوج أو للسودان، واعتبار المصريين مجرد غزاة ومحتلين لمصر.

 وإن كانت الحكومة قابلت هذا بحصافة بأن زادت من استثماراتها في أفريقيا، ودعم الخدمات الصحية والتعليمية هناك، إلا أنها تتورط الآن فيما تورطت فيه عائلة محمد علي والأحزاب قبل 1952 وحكومة الثورة بعدها بتبني هوية وقومية مفتعلة ومصطنعة ودخيلة على مصر، بوهم أن هذا يزيد من الروابط بين مصر من حولها ويقلل مخاطرها.

وإن كانت الورطة الأولى هي "القومية العربية"، فالورطة الجديدة هي ما صار لأول مرة في التاريخ يسمى بـ"القومية الأفريقية"، أو "الهوية الأفريقية"، وهي قومية أو هو اصطنعتها حركات "الأفروسنتريك" وغيرها، وتقوم على أن أفريقيا له هوية واحدة، ويقصدون بها أكثر "الهوية السوداء"، ويرون أن الحضارة الكيمتية هي صناعة "أفريقية سوداء"، والمصريين من غير السود هم غزاة.

 وللعجب فإن الإعلام المصري الرسمي يتبني هذه المصطلحات لحد كبير، حتى إنه يشجع انتشار الثقافة الأفريقية "الزنجية والسوداء" في مصر من طراز الملابس والثقافة والأكلات، والتساهل في استيطان جماعات أفريقية من السودان وأريتريا وأثيوبيا ونيجيريا إلخ في أحياء مصر، وصبغها بهوياتهم، بل وصل الأمر لرفع أعلامهم فيها، وإصرار أحد البرامج في قناة النيل الثقافية على تسمية الحضارة المصرية بأنها "حضارة أفريقية" أمام إصرار ضيف البرنامج، الدكتور أحمد عيسى أستاذ الآثار في جامعة القاهرة، على أن اسمها "الحضارة المصرية"[21].

وهكذا فباستبعاد أفريقيا من "الأقواس التسعة" صار بالنسبة للإعلام المصري كل ما يأتي منها "مقبول" و"مشروع"، ولو على حساب حضارة وشرف الأجداد، ولا يصفون الخطر بأنه خطر إلا إذا وصل لحمل السلاح أو منع المياه عن مصر مثلما تفعل أثيوبيا.

الاستيطان الزنجي في مصر وسرقة حضارتها
في الوقت الذي تنتشر فيه مستوطنات أفريقية سوداء في مصر، ينشط "الأفروسنتريك" في سرقة حضارة مصر ونسبها لأنفسهم أمام العالم


▼▼▼مراية التيارات السياسية العولمية

 إن كان تيار "القومية العربية" الإقليمي يوزع دم وعرق وحضارة وحقوق مصر على 22 دولة، المسماة منذ القرن 20 بالدول العربية، وتمتد من الخليج العربي شرقا إلى المحيط الأطلنطي غربا، وتيار "الفرقنة"، أو "الهوية الأفريقية" يوزع دم وعرق وحضارة وحقوق مصر على 54 دولة في قارة أفريقيا جنوب وغرب مصر، فإن التيارات العالمية توزع دم وعرق وحضارة وحقوق مصر على كل دول العالم (193 المنضمة للأمم المتحدة)، والمتوزعة على كل قارات العالم، شرقا وغربا وشمالا وجنوبا.

 وهي تيارات تكفر بالحدود الوطنية، وأحيانا بالجيوش الوطنية مدامت تحفظ سيادة الدولة لأهلها، وترى هذه التيارات أن من ينتمي إليها في أي مكان في العالم هو الأقرب لها من ابن البلد.

و"الأخ" عندها هم أتباعها في أي مكان في العالم، و"العدو" هو أي شخص يحارب هذه التيارات، أو يقف في وجه مشروعها للسيطرة على العالم، ولو كان ابن البلد.

 ومن هذه التيارات، الماسونية، تنظيم الإخوان المسلمين، الحركات المسماة بالسلفية أو التكفيرية، الشيوعية، بعض التيارات الكنيسة مثل التيار الإنجيلي المسمى بـ"المحافظين الجدد" في أمريكا، والعولمة أو تيار المواطن العالمي، وهي الترجمة العصرية على أرض الواقع لكلمة "الماسونية".

 فمثلا في الشيوعية أو اليسارية، وخصوصا درجة معينة منها المؤمنة بحلم تكوين الدولة الاشتراكية العالمية، فكل شيوعي أو يساري في العالم، أو ما يسمونه "الرفيق"، هو الأقرب للشيوعي داخل مصر من المصري غير الشيوعي، ونفس الحال لبقية التيارات.

 وربما لهذا ليس عجيبا أن معظم أتباع هذه التيارات نراهم يعتبرون أن مصر مجرد "نهيبة"، أو "غنيمة حرب"، يجب أن تظل مفتوحة دائما للأجانب- ليجد أتباعهم متسعا لدخولها واستيطانها- وهم من أشاعوا أن مصر ليست لأهلها، بل مصر لكل الأجناس، أو تحريف كلمة "أم الدنيا" لتكون موطن لكل الأجناس، أو عبارة "الأرض أرض الله والمال مال الله"، أو أن مصر بلد متعدد الأعراق، أو بتعبيرهم "كوزموبوليتان"، ولا تصلح للتقدم إلا باستقبال الهجرات الدائمة، أو أن ديني ووطني هو "الإنسانية فقط"، حتى باتت الجنسية المصرية توزع على الأجانب بكل الطرق، والمستوطنات الأجنبية في مصر من عدة أجناس تتمدد في السنوات الأخيرة في مصر على الأطراف وفي العمق.

المواطن العالمي والأقواس التسعة
صورة منتشرة في مواقع تسوق لفكرة "المواطن العالمي" الذي لا ينتمي لوطن، ويقول إن العالم كله وطني، وتضلل الشعوب بأن ليس لها أعداء لتفتح حدودها وتمنح جنسيتها للجميع، حاولوا تطبيقها في أمريكا، والآن يسعون لتعميمها في العالم ومنه مصر بنشر فكر التنظيمات العالمية بكل أشكالها

▼▼▼مراية النسب الأجنبي "المصريين المزورين"

 سألت واحد: إنت منين؟

قال: أنا من قبيلة كذا، من جزيرة العرب، وساكن في أسيوط.

 استغربت الرد.. فهل معناه إنه معتبر نفسه عربي من بلاد العرب ومصر أو أسيوط مجرد دار إقامة؟

 وفي السنين الأخيرة، مع انتشار مواقع النت والتواصل الاجتماعي، ظهر تباهي أو تفاخر غريب بأنساب قبلية عربية، أو مغاربية، أو تركية، أو أرمنلي إلخ، وهو تفاخر موروث عن أيام الاحتلالات.

 وفي أكثر من مناقشة مع ناس من أصحاب هذا الروح الغريبة، سألتهم إن حصل حرب بين مصر وبين الدولة أو العرق الأجنبي الذي ينسبون أنفسهم له، فمع من سيكونون؟

 النادر كان يقول مع مصر طبعا، والأكثرية يتهرب من الإجابة ويشوشر على السؤال.

 معلوم أنه ليس غريبا أن أي بلد تتعرضت لهجرات واستيطان أجنبي، خصوصا في عصور احتلالات، لكن الغريب أنه بعد تحريرها من الاحتلالات وسطوة الأجنبي، يظل هذا المستوطن، رغم مرور زمن طويل على وجوده في هذه البلد، وحصوله على كامل حقوق المواطنة، واختياره أن تكون البلد موطنا أبديا، أن يختار في نفس الوقت أن تكون مجرد "موطن" (أي مكان إقامة)، وليس وطن (أي البلد الوحيد المنتمي إليه ويعمق جدره فيه).

 وفي مصر، انصهر بعض من استوطنوها منذ زمن بعيد، ولم يعد يفخر إلا بانتماءه لها ولسكانها الأصليين الفلاحين، إلا أن البعض الآخر ما زال يعيش "بروح غريبة"، و"متعالية"، وهذا الأخير سيكون تقييمه لمن هم أعداء مصر خاص بانتماءاته هو "الغريبة" وليس بالأمن القومي المصري.. هم من يصح تسميتهم بـ"المصريين المزورين"، أو تسميتهم بـ"الأجانب المتنكرين" في الجنسية المصرية بتعبير الصحفي الأمريكي ويلتون واين، مدير مكتب وكالة الأسوشيتدبرس في الشرق الأوسط في الخمسينات وهو يصف في كتابه "عبد الناصر البحث عن الكرامة" وهو يصف عينة من أغنياء مصر وقتها الذين يحملون الجنسية المصرية ولكن يتفاخرون بأنساب أجنبية تعاليا على الفلاحين أهل البلد. 

▼▼▼مراية التجنيس

 التجنيس، أي منح أجنبي حقوق المواطنة ومساواته بأهل البلد الأصليين بموجب ورقة يُكتب فيه أنه أخذ صفة هذه البلد (الجنسية)، هي فكرة أجنبية ظهرت في عصر تمدد الاحتلالين الإغريقي والروماني، لأهداف تخص مصالحهما الاحتلالية، واختفت أو انحصرت نوعا ما حتى عادت تنتشر في القرن 19 لأهداف تخص أيضا مصالح التنظيمات العالمية التي تسعى للانتشار بغير سلاح، وأن يأخذ أعضائها أو من تتوافق مصالحهم معها حقوق المواطنة في البلاد التي تستهدفها، وكان هذا متزامن مع انتشار المحافل الماسونية في البلاد الواقعة تحت الاحتلال الأوروبي، ناشرة شعارات مثل "الإخاء والمساواة بين البشر"، هدفها دائما التمكين للأجنبي القادم للبلاد، وليس حفظ حقوق ابن البلد.

 ومعلوم كيف تم استخدام قانون التجنيس أيام الاحتلال الإنجليزي في تجنيس بعض الشوام بتشجيع من مندوب الاحتلال اللورد كرومر، وتجنيس بعض الأتراك وغيرهم من أجناس كي يستمرون في تولي المناصب في البرلمان والحكومة بعد أن اشترط دستور 1923 أن يكون متولي هذه المناصب "مصريا".

 وعامل آخر أدى لانتشار التجنيس في العالم، هو حاجة أوروبا وأمريكا لهجرات والسكان، خصوصا بعد الدمار الذي أحدثته الحربين العالميتين الأولى والثانية، أما في البلاد التي لا تحتاج سكان ولا عمال، مثل مصر، ويهددها الخطر والطمع من كل الشعوب الأخرى، فلماذا تمنح جنسيتها لأجنبي يأخذ مكان أو حقوق ابن البلد، وفوق هذا غالبا سيحتفظ بالولاء للبلد أو العرق الأجنبي؟

 والمجنس- في أكثر الأحوال- سيكون تقييمه لمن هم أعداء مصر خاص بانتماءاته هو "الغريبة" وليس بالأمن القومي المصري، وفي الغالب يورث أولاده الانتماء لنسبه البرَّاني أكثر مما يورثهم أنهم مصريون وفقط.

الحكومة تقر قانون بيع الجنسية
بدلا من أن تلغي الحكومة والبرلمان مواد "منح" الجنسية المصرية الموروثة من الاحتلال والغفلة، أضافا في 2019 موادا جديدة تقضي بـ"بيع" الجنسية المصرية- لأول مرة في التاريخ- بحجة تنشيط الاستثمار

▼▼▼ النتيجة..

 هل يستطيع المصريين اليوم أن يحددوا ما هي هويتهم، هوية حكومتهم؟ هوية تعليمهم؟ هوية الدولة ككل؟

 هل الحكومة يمكن وصفها بأنها مصرية وفقط؟ (كيمتية/فلاحية)، أم أنها حكومة عربية، أم حكومة إسلامية، أم حكومة عولمية ممن يؤمنون بأن مصر "لكل الأجناس"، أم هي خليط من كل هذا، مصرية عربية عولمية، أي "برزميط"؟

 إن الإنسان السوي لا يمكن أن يكون له أبَّان، أي لا يمكن أن يشاور على رجلين ويقول عليهما في نفس الوقت إن كلاهما أبوه الذي أنجبه من أمه، لا بد أن يكون له أب واحد، فما بالنا إن شاور على 3 رجال أو 4 رجال إلخ، وقال هؤلاء من أنجبوني من أمي!

 وكذلك، المواطن في البلد لابد أن يحدد موقفه، ويكون له أب واحد، فإما هو البلد المقيم فيه للأبد، وإما بلد آخر وعرق دخيل، ووقتها فليكشف وجهه ليخرج عن دائرة المواطنة، وليعود إلى البلد المنتمي إليه، وإلا كان من المنافقين و"الأقواس التسعة".

 ولكن لماذا وصلنا إلى هذ التوهان في تحديد هوية المصريين بما فيهم الحكومة التي تحكمنا؟

  لأنه اليوم.. يحتل المؤدلجين (المنتمين لتيارات أجنبية)، أو أصحاب النسب الأجنبي ولم يتمصروا حقا، أماكن هامة في صناعة الرأي العام والقرار والبرلمان والإعلام والتعليم، فبحكم الشهادات الرفيعة التي يحملونها، أو بحكم الثروة والنفوذ والعلاقات العائلية القديمة الموروثة من أيام الاحتلالات، يقبعون في أماكن هامة.

  وربما بسببهم يظهر التخبط في قرارات السياسة المصرية، والتخبط في مناهج التعليم وفي الإعلام والاقتصاد، وتظهر غير متناسقة أو غير ثابتة، فتتغير كل فترة قليلة، كأنه ليس هناك خطوط عريضة وخطوط حمراء تسير عليها الدولة التاريخية ولا تسمح بتجاوزها.

 فالعراك الأيديولوجي ومحاولة كل منهم فرض أيديولوجيته وانتماءاته الدخيلة على مصر تظهر في هذا بوضوح لمن يتتبع، حتى في اختيار مواضيع وقصص المسلسلات والأفلام التي نجدها تمجد في عصور الاحتلال، وتقدم من حكموا مصر من الأجانب- كالمماليك أو العرب أو علويين أو يونانيين إلخ- على أنهم "أبطال المصريين"، أو "الرموز الوطنية العظيمة"، في حين يتراجع التفاخر بالأصل المصري والرموز المصرية الكيمتية/الفلاحية.

 والنتيجة أن مصر تبدو للناظر "سداح مداح"، بتعبير الكاتب أحمد بهاء الدين في نقده للانفتاح الاقتصادي في السبعينات، أو تبدو "مستباحة"، لكافة الأيديولوجيات بل وصارت مستباحة لكافة الأعراق والأيديولوجيات، الذين يمثلون كل أعداء مصر على مدار التاريخ، ولكنهم باتوا يعششون في عروق مصر وأرضها في السنوات الأخيرة، تحت اسم "أشقاء"، و"لاجئين"، و"عمل إنساني"، و"المواطنة العالمية"، و"العروبة"، و"الكرم"، وأن مصر لكل الأجناس لأنها "أم الدنيا".

 كل أعداء مصر، كل الأقواس التسعة، يسرحون ويمرحون في مصر كأنهم "أصحاب مصر"، ويستقوون عليها بالمنظمات العالمية، ويصرح الكثير منهم بأنهم أصحاب مصر الحقيقيين وأهلها الحاليين مجرد غزاة محتلين.

▲▲▲ ولا زال هناك.. أمل

 إلا أنه رغم كل هذه الغيوم، وكل هذا التوهان، فإن هناك "خط رجعة"..

 وبمعنى أدق أن المصريين مهما تاهوا فإنه في أعماقهم، ما زالت تسكن مصر الحقيقية، مصر ذات الوجه الكميتي/الفلاحي وليس "البزرميط" الوافد.

وبعد كل رحلة توهان نجد- حتى من يتعرض للتوهان منهم- ينتهي به الحال إلى أن يقول إن مصر أمة، مختلفة تماما عن كل ما حولها، وأن كل ما حولها يطمع فيها، ويجب أن تأخذ حذرها منهم..

 فمثلا، معلوم توهان ثورة 23 يوليو منذ 1956 في تيار "القومية العربية"، إلا أنه بعد تجربتها الطويلة مع ما يمكن وصفه بـ"الغدر" من دول تحمل صفة "العربية"، وتعاملها مع الشعوب المحيطة بمصر، خرج جمال عبد الناصر بعد 1967 بالخلاصة التالية، التي قالها في اجتماع مع الرئيس السوفيتي بادجورني في القاهرة يوم 23 يونيو 1967، حين سأله بادجورني عن إمكانية صمود مصر أمام الحرب النفسية المصبوبة عليها بعد عدوان 1967.

فتكلم ناصر عن الفروق بين المصريين والعرب، وقال نصا حسب ما هو مسجل في محضر الاجتماع:

" "بالنسبة للناس هنا فى مصر، مصر تختلف عن الدول العربية كلها؛ هنا فيه أمة، وشعب، سوريا.. لأ؛ سوريا مجموعة واحات، مجموعة مذاهب، مجموعة قبائل! الأردن لأ.. العراق لأ، ليبيا لأ، السودان لأ، ولا اليمن حتى! هنا (في مصر) الوضع يختلف اختلاف كلي عن أي بلد عربي، الشعب هنا شعب نبيه جدا".

و في نفس الجلسة تكلم الرئيس السوفيتي عن صمود الجنود المصريين ووصفهم بإنه قال بلغنا أصدقاءنا إن "الجنود عندكم كويسين وطنيين جدا".

فرد عليه عبد الناصر بفخر، ملخصا الروح الفلاحية المصرية:

"فلاحين.. وأنا حاربت معاهم وشفتهم، إحنا رغم إن احنا فقدنا الحرب، لكن حصل عندنا بطولات لا حد لها في الأيام الخمسة دي"[22].

عبد الناصر والفلاحين
رغم توهان ثورة 23 يوليو في موجة القومية العربية الموروثة من ما قبل 1952 إلا أنه في عمقها كانت تؤمن بأن مصر الفلاحين ليست مثل العرب، وأنها أمة بذاتها

وفي الثمانينات، وفي لقاء مع برنامج "واجه الصحافة" في التلفزيون المصري، قال وزير الدفاع وقتها المشير عبد الحليم أبو غزالة، وهو يحدد الخطوط العريضة للأمن القومي المصري:

"نحن كمصر قادرين على الدفاع عن نفسنا، وإذا أقدمت أي دولة حولنا، على مجازفة أو مخاطرة عسكرية ضد مصر سيكون ثمنها فادح".

وفي رد على سؤال من المذيع عن مفهوم الأمن المصري ومفهوم الأمن العربي قال: "أنا أعلنت قبل كدة عن مفهوم الأمن المصري، مفهوم الأمن العربي لم يتضح بعد لوجود أو لغيبة اتفاق عربي، مش عايزة أقول الوحدة العربية لأن دي هدف بعيد جدا"، و"أنا بقول الأمن القومي المصري واضح المعالم، منع العدوان على مصر من أي اتجاه، ومن أي دولة كانت، منع العدوان، ونحط كلمة المنع نمنع حتى التفكير إنه يبدأ، وإن حصل هذا العدوان سندمره بكل قوة"[23].

(فيديو المشير عبد الحليم أبو غزالة)


 ورغم مدح جمال حمدان لما يسمى بالفتوحات العربية في بعض كتاباته، إلا أنه في النهاية، وفي كتاب صدر بعد وفاته في التسعينات، وكان مسودات لأحدث أفكاره وخلاصاته، هو كتاب "جمال حمدان صفحات من أوراقه الخاصة مذكرات في الجغرافيا السياسية" قال تحت عنوان "مصر والمصريون":

 "مصر اليوم: إما القوة أو الانقراض، إما القوة وإما الموت! إن لم تحقق مصر محاولة قوة عظمى تسود المنطقة بأثرها، فسوف يتداعى عليها الجميع يوما ما "كالقصعة!" أعداء وأشقاء وأصدقاء، أقربين وبعيدين و"أبعدين!" ، زنوج أفريقيا سيكونون أول أبناء آوى، ولكنهم سيدعون زنوج النيل لينوبوا عنهم، ويقفون هم يتفرجون في حياد كاذب في انتظار العزاء بعد الوفاة، (الحبشة + السودان + أعالي النيل قد يحاربون مصر يوما ما عسكريا! ثم إسرائيل + عرب البترول + تركيا وإيران.. إلخ)[24].

جمال حمدان
جمال حمدان وضع في عباراته القصيرة السابقة عقيدة مصر القتالية الأصلية

 هنا لخص عبد الناصر وعبد الحليم أبو غزالة وجمال حمدان، عقيدة الأجداد الأصيلة حرفيا، عقيدتهم عن هوية كيمة (مصر)، وعن "الأقواس التسعة".

 ولنتأمل عبارات "مصر تختلف عن الدول العربية كلها؛ هنا فيه أمة، وشعب"، أما بقية من حولنا فقبائل (المعنى أن مصر أمة بذاتها)، وأن شعب مصر "فلاحين" (أي شعب مستقر ومتماسك ومرتبط بأرضه بقوة)، وأن "الأمن القومي المصري واضح المعالم، منع العدوان على مصر من أي اتجاه، ومن أي دولة كانت، منع العدوان"، وأن "سوف يتداعى عليها الجميع يوما ما "كالقصعة!" أعداء وأشقاء وأصدقاء، أقربين وبعيدين و"أبعدين!" (ولم يفرق في هذا بين عرب وعجم، بين شماليين وشرقيين وغربيين وجنوبيين).

هكذا هم يرددون "وصية حور" من أعماقهم دون أن يعرفوا:

التبجيل لكِ (التحية لكِ) يا عين حور التي أعيدت بكلتا يديه

إنه لن يأذن لكِ بطاعة الغربيين

إنه لن يأذن لكِ بطاعة الشرقيين

إنه لن يأذن لكِ بطاعة الجنوبيين

إنه لن يأذن لكِ بطاعة الشماليين

إنه لن يأذن لكِ بطاعة هؤلاء الذين في وسط الأرض

بل سوف تطيعين حور

فإنه الذي أعادك، وهو الذي خلقك، والذي أعادك إلى أصلك

ولخص كل هذا، وأمل العودة للأصل، بأبدع عبارات الشاعر سيد حجاب لما قال:

مين اللي قال مكتوب علينا الهوان

لا الدنيا سيرك ولا الزمن بهلوان

شى الله يا طاهرة .. يا رئيسة الديوان

آن الأوان نبقى احنا.. آن الأوان

وآديكو يا ولاد الأصول شاهدين

 

ياللى الزمان.. خدكم لفوق فى صعوده

ورجع وخان.. ضعتوا ف بروقه ورعوده

عودوا لأصولكو.. تانى للأرض عودوا

ده اللى يمد جدوره.. يشتد عوده


يا قلبى داحنا وبكره.. متواعدين

حكمة وقالوها جدودكم الخالدين

ياللي اكتشفت إن إنت عشت في خداع

وإن ماضي العمر ع الفاضي ضاع

صحصح كدة وفتح عينيك الوساع

وافرد شراع المجــد ومد الدراع

لبكرة تلقى بكرة بين الإيدين

وأميرة راجعة أميرة في عابدين([25])

 

ماعت رمز كل حلو وجميل في مصر
نقش لـ"ماعت" في مقبرة نفرتاري، وترمز "ماعت" لكل للنظام ضد الفوضى "إزفت"، وللحرية ضد الاحتلال، وللعدالة ضد الظلم، وللهوية الأصلية ولكل القيم الأخلاقية الحلوة التي صنعت حضارة مصر

بقلم: إفتكار السيد (نفرتاري أحمس)
__________________________

مقالات ذات علاقة:





_____________________

المراجع:

[1]- كلمة خلاسي يقال: ولد خِلاسي: وُلد بين أبوين أبيض وأسود، ودجاج خلاسي تولَّد بين دجاج هندي وفارسي (المعجم الوسيط) أي الخليط أو الهجين، هذا المعنى الحرفي لغويا، ومنه معنى عام وهو ذلك الذي تتعدد في صدره وعروقه الانتماءات لاختلاط الدم والأنساب أو اختلاط الثقافات والولاءات، وفي اللغة المصرية الدارجة يطلق على هذا النوع كلمة "بزرميط".

[2]- كتاب "نكبة توطين الهكسوس" (النكبة المصرية) ج1، إفتكار البنداري السيد (نفرتاري أحمس)، القاهرة، 2019، ص 34- 37

[3]- الرمزية التاريخية للأقواس التسعة، د.علاء الدين شاهين، مجلة المؤرخ المصري، كلية الآداب جامعة القاهرة، العدد 8، يناير 1992، ص 41

[4]- نفس المرجع، ص 43

[5]- موسوعة مصر القديمة، سليم حسن، ج 9، مطبعة جامعة فؤاد الأول، القاهرة، 1952، ص 118

[6]- الرمزية التاريخية للأقواس التسعة، د.علاء الدين شاهين، مرجع سابق، ص 31- 43

[7]- موسوعة مصر القديمة، سليم حسن، ج9، مرجع سابق، ص 119

[8]- نفس المرجع، ص 122

([9])- راجع تطور الفكر والدين في مصر القديمة، جيمس هنري بريستيد، ترجمة زكي سوس، دار الكرنك للنشر والتوزيع، القاهرة، 1961، ص 40- 45، وكلمة "إنموتف" المذكورة في "الأبواب الموجودة عليكِ تستوي ثابتة مثل إنموتف" تعني "عمود أمه" (نفس المرجع)

[10]- "متون الأهرام"، ترجمة حسن صابر، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002، ص 363- 367

[11]- نكبة توطين الهكسوس (النكبة المصرية) ج1، مرجع سابق، ص 34- 37

[12]- المرجع السابق، ص 37

[13]- ثورة 23 يوليو 1952، تاريخنا القومي في 7 سنوات، عبد الرحمن الرافعي، دار المعارف، ط 3، القاهرة، 1989، ص 237

[14]- خطبة البكباشي جمال عبد الناصر في هيئة التحرير بشبين الكوم محافظة المنوفية بتاريخ 23-2-1953

http://nasser.bibalex.org/TextViewer.aspx?TextID=SPCH-4-ar

[15]- راجع مراحل تكوين تيار القومية العربية في الشام والأسباب، ثم تغلغله على يد المهاجرين الشوام إلى مصر في أول القرن 20، في كتاب "نكبة توطين الهكسوس"، ج1، ص 624- 651

[16]- أغنية مقدمة مسلسل "أرابيسك"، كلمات سيد حجاب، ألحان عمار الشريعي، غناء حسن فؤاد

[17]- نكبة توطين الهكسوس، ج1، مرجع سابق، تتبع الغزو الشيوعي لمصر من ص 621- 624

[18]- مذكرات عبد الحميد الثاني، تقديم وترجمة محمد حرب، ط3، دار القلم، دمشق، 1991، ص 23

[19]- نكبة توطين الهكسوس، ج1، مرجع سابق، تتبع أسباب ومراحل تغلغل التيار السلفي-الإخواني في شكل تنظيمات من ص 615- 626

[20]- لمعلومات أكثر عن علاقة مصر بأفريقيا قديما وحتى القرن 20 راجع: "الشرق الأدنى القديم (الجزء الأول)، عبد العزيز صالح، و"بلاد النوبة تاريخها وآثارها، عبد المنعم أبو بكر، مجلة المجلة، س3، ع28، و"الوجود المصري في أفريقيا في الفترة بين 1820- 1899، السيد يوسف نصر"، و"مصر والسودان في أوائل عهد الاحتلال، عبد الرحمن الرافعي.

[21]- راجع: "المصري اليوم" ترصد أحوال "الأرومو" أكبر القبائل الإثيوبية فى مصر

https://www.almasryalyoum.com/news/details/1261177

وبرنامج "أفريقيا"، قناة النيل الثقافية، 21- 4- 2020

[22]- محضر الاجتماع كامل على موقع الرئيس جمال عبد  الناصر التابع لمكتبة الإسكندرية

http://nasser.bibalex.org/Data/Documents-67/11.pdf

[23]- الحوار التلفزيون بأكمله للمشير عبد الحليم أبو غزالة عن الأمن القومي المصري

https://www.youtube.com/watch?reload=9&v=vJfoJnM1C6k

[24]- "جمال حمدان صفحات من أوراقه الخاصة مذكرات في الجغرافيا السياسية"، إعداد وتقديم عبد الحميد حمدان، دار الغدر العربي، ط1، القاهرة، 1996،ص 31

([25])- آن الأوان، تأليف سيد حجاب، ألحان عمار الشريعي، غناء هشام عباس، أغنية مقدمة مسلسل "أميرة في عابدين"


4 التعليقات:

إرسال تعليق

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More

 
Legacy Version