حين أحست القومية العربية بأنها وضعت لها قدما في مصر في الثلاثينات، أخرجت من شنطتها سلاح الاغتيال المعنوي والإرهاب؛ فأمعن "القوميون العرب" الطعن في رافضيهم ومنهم طه حسين، رغم أنه لم يدعُ لقطيعة مع العرب.
رفض طه حسين اعتبار المصريين عرب عرقيا، واعتبر كل من نسب نفسه لعدنان وقحطان يعيش في مصر بروح الاحتلال والغلبة على المصريين
بل وهو وزير للمعارف قدم مساعدات لدول عربية مثل الكويت كإرسال معلمين على حساب الخزانة المصرية بعد أن رفض المعلمين الفلسطينيين التدريس هناك لضعف الأجر- قبل تدفق البترول- ورغم أنه عاشق للأدب العربي لدرجة أنه لا يتحدث إلا بالعربية الفصحى، ولكن جريمته عندهم أنه أراد الاحتفاظ لمصر بمصريتها وأن يكون ولاء المصري لمصر ولا يقبل احتلالها من عربي أو عجمي([1]).
وذلك أن طه حسين تحدث عن الظلم الذي عاناه المصريون من الاحتلال العربي ضمن غيره من الاحتلالات لما كتب في جريدة "كوكب الشرق" سنة 1933 يقول: "إن المصريين قد خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان، وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين"([2]).
ورفض طه حسين شرخ الشخصية المصرية وجعلها مصرية وعربية في آن واحد فانتقد من انحرف من المصريين وسار وراء "القوميين العرب"، وقال عنهم تحت عنوان "المصرية والمجادلون": "زعموا أنهم قادرون على أن يكونوا مصريين محتفظين بمصريتهم، حريصين على شخصيتهم، وأن يكونوا عربا ينتمون إلى عدنان وقحطان، ويلجون في الفن بهذا النسب والحرص عليه والرغبة في مواطنه القديمة، أي أنهم قادرون على أن يكونوا مصريين وحجازيين أو يمنيين في وقت واحد، كأن الوطنية لعبة في أيديهم شديدة المرونة، يعطونها ما أحبوا من الصور، وما شاءوا من الأشكال، ولم أرَ عقولا بلغت من القدرة على التوفيق بين هذه النقائص كعقول أصحابنا هؤلاء الذين يريدون أن يحتفظوا بشخصية مصر والحجاز واليمن، أي يجعلوا الوطنية أمرا شائعا، ثم يزعمون بعد ذلك أنهم وطنيون".
وبشكل أكثر جرأة يلمس طه حسين الجرح حين ينتقد من يتمسكون بأصول قبلية عربية ويسعون لفرضها على مصر: "ولو أنهم عقلوا ما يقولون وفهموا ما يذهبون إليه لقالوا غير خائفين ولا وجلين إنهم لا يزالون يعتبرون أنفسهم في مصر فاتحين يؤيدهم السيف، وتبصرهم السنان، جناية ليس أكبر منها، وذنب ليس أعظم منه خطرا على مصر، فإنهم يريدون بعد ثلاثة عشر قرنا مضت على الفتح أن يقسموا المصريين بعروبتهم الكاذبة إلى غالب ومغلوب، ومع أنهم يعلمون أن مزية الفتح والتغلب قد ذهبت من أيديهم منذ زمن بعيد إن صح أنهم من نسل الفاتحين حقا، وقد أصبحوا الآن مغلوبين قد فتحت عليهم بلادهم، وأصبحت حقوقهم السياسية العامة في أيدي غيرهم بحكم القوة والقانون والتاريخ معا.. إن الويل لمصر إذا لم تكن قد استطاعت أن تصبغ هؤلاء الفاتحين بصبغتها الخاصة في ثلاثة عشر قرنا من الزمان([3])".
نعم الويل لمصر يا طه حسين.. الويل لها ممن لا يزالون يخدرونها ويضللونها بأن كل الهجرات والاحتلالات "ذابت" في مصر و"تمصرت"، وفي نفس الوقت يطالبون مصر بأن تلبس هي لبس وقناع الهويات والهجرات من كل صنف، والتي ادعوا أنها "تمصرت"، وعادوا اليوم لفتحها بهجرات جديدة تشتاق لعصور احتلالها لمصر..
شاهت وشوشنا.. توهنا بين شين وزين
ولسه ياما وياما ح نشوف كمان
وينفلت من بين إيدينا الزمان ([4])
وعلى إثر مقالة طه حسين الكاشفة للجرح وللأقنعة ولَّعت المعركة بين مصر والعروبيين، فاحتشد فريق للدفاع عن طه، وعلى رأسهم سلامة موسى، وفريق ضده وعلى رأسهم عبد الرحمن عزام([5])، واستعمل العروبيون سلاح الإرهاب ضد المصريين الذي تحدث عنه (فيما بعد) دستور المتطرفين منهم "الكتاب الأحمر"[6] (الذي وضعته الحركة العربية السرية بعد تأسيس نواتها في بيروت، واستمرت في الفترة من 1935- 1945 وكان يجيز استخدام العنف والترهيب ضد رافضي القومية العربية) ، فنشرت صحيفة "المقطم" الشامية أن مقاطعة الكتب "ستتبع مع كل كاتب مصري يطعن في القومية العربية ويشجع الروح الشعوبية([7])".
وبالفعل، أحرقت "عصبة العمل القومي" كتب طه حسين في ميدان عام بالعاصمة السورية دمشق في 1933، وتجرأت على الحضارة المصرية قائلة إن طه حسين "واحد من الذين يهونون أمر العرب، ويصغرون من شأنهم، ويرفعون الصوت بالدعوة التي يكرهونها مُرَّ الكراهية، ألا وهي الفرعونية([8])".
من |
من مؤسسين عصبة العمل القومي في لبنان، نقل عن موقع "التاريخ السوري"
فاتهموا طه حسين وغيره من مصريين بأنهم يصغرون من أمر العرب لمجرد اعتزازهم بمصريتهم، في حين لا يعتبر هؤلاء العروبيون خطتهم للسطو على مصر وكراهيتهم للقومية المصرية وحضارتها ومساعيهم للتصغير من شأنها مقابل تمجيد العرب والشوام تهمة أو جريمة.. ولماذا يا ترى يكرهون الدعوة للقومية المصرية "مُرَّ الكراهية" !
ويعد هذا تنفيذا حرفيا لما ورد في دستور "الحركة العربية السرية" (الكتاب الأحمر) عن أن كل من يرفض العروبة ويتمسك بهويته الوطنية يكون قد ارتكب "عملا من أعمال الحرب" ووجب معاقبته.
وبعد الاطمئنان لوجود مكان لهذا التيار في الحكومة وبين المثقفين بدأت مرحلة جديدة وهي تأسيس الجامعة العربية، وجاءت في وقت حرج لمصر، فالحكومة والأحزاب مطحونة في خلافاتها الداخلية مع بعضها أو مع الملك، فيما الشعب يطالبهم بالتوحد لإجبار بريطانيا على الجلاء، والبلد بحاجة إلى روح ثورة 1919، وجدان واحد وشعب واحد بشعار واحد تحت راية واحدة، لا أن يتم تقسيمه بين ألف راية.
وتجاهل عبد الرحمن عزام كل هذا، وطاف في رحلات مكوكية السعودية وبلدانا أخرى لإقناعهم بفكرة الجامعة، وتم توقيع ميثاقها فعلا في 22 مارس 1945، وقامت أول مؤسسة توصف مصر فيها بشكل "رسمي" بأنها عربية، لأول مرة في التاريخ المديد، ولتصبح مجبرة "بالقانون" على تشتيت جهودها في قضايا المنطقة في الوقت الذي تحدده الجامعة أو "الشعوب العربية".
وتيسر للقوميين العرب هذه الغنيمة على يد الملك فاروق، ففاروق فشل في أن يكون زعيما للمصريين، فلم يخرج منه موقف مشهود ضحى فيه لأجلهم، وانكسرت صورته بعد حادث 4 فبراير 1942 الذي تأكد فيه من جديد أن العيلة العلوية تدين بتوليها العرش للإنجليز، وبجانب فساده الشخصي كان دائم الصراع مع الوزارات، وخاصة وزارة حزب الوفد، فتاق للزعامة من باب آخر، وهو زعامة المنطقة وتبني قضية فلسطين، فساعد على إنشاء الجامعة العربية وتوريط الجيش في فخ 1948.
قادة الدول المشاركة في تأسيس الجامعة العربية في أول قمة عربية والتي انعقدت في أنشاص بمصر 1946
وكان مثيرا للإشفاق أنه في حين انجرفت الحكومة في مصر لهذا التيار، كانت حكومات البلاد العربية الأصل حقا (السعودية) وحكومات البلاد التي خرجت منها دعوة القومية العربية (سوريا ولبنان والعراق) تتباعد عنه حين لم تجد نفسها ستكون زعيمة للعرب، حتى قال مصطفى النحاس إنه "أثناء المشاورات التي أجراها سنة 1944 بخصوص الوحدة لم يجد حكومة عربية واحدة مستعدة للتنازل عن ذرة من سيادتها واستقلالها لجامعة الدول العربية التي يُراد إنشاؤها، أو لأية هيئة عربية سواها([9])".
ومع ذلك لم تيأس التنظيمات والشخصيات العروبية، وظلت تضغط نفسيا لفرض هذا التيار وإقناع الحكومات به، لدرجة وصفوا من يتمسك بقوميته الوطنية كـ "المصرية" أو ما يطلق عليها "الفرعونية" في مصر، و"الفينيقة" في لبنان بأنه يأتي بـ "بدعة"، مع أن الهوية الوطنية- خاصة في مصر- هي الأصل طوال آلاف السنين، والقومية العربية هي الطارئة منذ وقت قريب.
▲▲▲ المقالة منقولة من كتاب نكبة توطين الهكسوس، ج 1، ص 648- 649، بقلم إفتكار السيد "نفرتاري أحمس"
مقالات لها صلة
دور المرتزقة الشوام في الحرب على "مصر للمصريين أيام الاحتلال الإنجليزي العلوي (ج1)
دور المرتزقة الشوام والمغاربة في الحرب على "مصر للمصريين" أيام الاحتلال الإنجليزي العلوي (ج2)
([1])- السفير عاطف: الاستثمارات الكويتية في مصر تبلغ نحو 15 مليار دولار، موقع صحيفة الراي الكويتية، 30- 3- 2016
([2])- الحركة القومية العربية في القرن العشرين، هاني الهندي، مركز دراسات الوحدة العربية، ط2، بيروت 2015، ص 428
([3])- انظر: مصر في قصص كتابها المعاصرين، محمد جبريل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2009، ج 2، ص 652
[6]- الكتاب الأحمر وثيقة تلخص مفهوم القومية العربية عند جماعة من الشوام والعراقيين، كونوا ما تسمى فيما بعد بـ"جماعة الكتاب الأحمر"، وأهدافها، وطرق تحقيقها، وكانت بنوده تشمل إجازة استخدام العنف والانقلابات ضد من يرفض القومية العربية ويتمسك بالهوية الوطنية الخاصة ببلده، حتى لو كان في استخدام اللغة العامية، واستمرت في الفترة من 1935- 1945، ولكن أفكارها وآثارها ما زالت موجودة عند بعض العروبيين حتى الآن، لمزيد من المعلومات راجع كتاب الحركة العربية السرية 1935- 1945 (جماعة الكتاب الأحمر)، تأليف شفيق جحا (أحد مؤسسي الحركة)، الفرات للنشر والتوزيع، ط1،بيروت 2004.
([7])- نفس المرجع، ص 431
*** الشعوبية أو الشعبوية مصطلح سياسي يستخدمه دعاة تكوين الإمبراطوريات أو الحكومات الإقليمية والعالمية لوصف وإرهاب المتمسكين بهوية شعوبهم وأوطانهم وبحدودها، والرافضين للتدخلات الأجنبية، مثلما يرهبونهم بمصطلح شوفينية وعنصرية.
0 التعليقات:
إرسال تعليق